أخبار عاجلة

مناظر أسطورة مدينة فاس الجبلية زلاغ وثغات .. إعجاب وإجلال وانبهار

مناظر أسطورة مدينة فاس الجبلية زلاغ وثغات .. إعجاب وإجلال وانبهار
مناظر أسطورة مدينة فاس الجبلية زلاغ وثغات .. إعجاب وإجلال وانبهار

لا يمكن للقادم إلى فاس من الجهتين الشرقية والغربية أن يغفل نظره منظر القمتين الرهيبتين اللتين تبدوان مثل كتلتين عاتيتين، تطلان على منحدرات فاس من جهتها الشمالية؛ جبل زلاغ وجبل ثغات. فهذان الجبلان يجثوان مثل حارسين لما أسفلهما من تضاريس وسفوح وحقول ممتدة، ويحجبان أراض فلاحية وجنائن كروم بديعة تتوارى خلف ظهرانهما عن الأنظار.

من الجهة الشمالية الشرقية يبدو منظر جبل زلاغ، “بكل جرمه المدور، الرمادي أو الأشهب حسب مساقط الضوء،”، يشبه حسب وصف روجي لوطرنو في كتاب (فاس ما قبل الحماية) “حيوانا ساكنا يحمي الموقع ويشرف عليه. وأما جبل ثغات من الجهة الشمالية الغربية فيقع، استنادا إلى الحسن الوزان في كتاب (وصف إفريقيا)، “على مسافة سبعة أميال تقريبا إلى الغرب من فاس”.

لقد كان اسم زلاغ يشمل الأراضي والمناطق الفلاحية المحيطة بفاس من جهتها الشرقية، كما لا يزال حتى اليوم يمثل ذلك الشموخ العالي الذي تنظر إليه أعين ساكنة فاس يوميا من داخل المدينة القديمة أو من خارجها، خلال تجوالهم، أو ترحالهم، او نزهاتهم، بإجلال ومتعة، كمنظر طبيعي مكمل وملازم لذلك الامتداد العمراني الممتد بكل انسيابه والتصاقه ببعضه كمصورات أسطورية تعانق محيطها القروي.

لقد تمركز اسم هذا الجبل في ثقافة الساكنة الشعبية وفي مقولاتها اليومية؛ فيقال، على سبيل المثال، “فاس بنزايهُ، وزلاغ مقابلُ”، أو حين يصبح دلالة على الإنكار أو التشبث بالرأي أو التعنت في الموقف أو التعالى في المعاملات، فيقال: “طلع لزلاغ”.. فهذا الجبل بعلوه الذي يقارب 1000 مترا وامتداد طوله إلى أكثر من 22 كيلومترا شرقا، وإطلالته على المدينة القديمة وما جاورها، يمنح إمكانية مشاهدته من كل أطراف المدينة أو من فوق سطوحها المتفرعة.

يمثل جبل زلاغ حتى اليوم رمزا لفاس، حيث نلاقي اسمه يتصدر بعض المؤسسات التجارية والسياحية في المدينة. كما حمل اسمه الفاسيون معهم إلى خارج مدينتهم وأطلقوه على مشاريعهم التجارية في مدن أخرى.

إن حضور هذا الجبل في المشهد الطبيعي للمدينة تربطه بالساكنة علاقة إعجاب ورهبة وانبهار وفضول في الوقت نفسه. لقد حيكت حوله أساطير وحكايات، غير أن الذين تسلقوه حتى القمة قليلون جدا. إنه يعانق ذكراهم في النزهات والجولات والفسحات الربيعية، لأنه جبل المدينة القديمة الوحيد الذي لا ينافسه مرتفع غيره في مثل علوه في كل محيط فاس القريب.

لم يكن الاهتمام بجبل زلاغ حديث العهد، فقد منحه الأقدمون أيضا انتباههم كابن أبي زرع والحسن الوزان، وبعض الرحالة الغربيين الذين زاروا مدينة فاس ورحالة حديثون. فقد كتب صاحب كتاب (الأنيس المطرب بروض القرطاس) وهو يتحدث عن مؤسس الدولة الإدريسية في نهاية القرن الثامن الميلادي، أثناء اختباره للموقع الملائم لإنشاء المدينة فقال: “فاختار أولا مكانا على الحدور (ربما الشمالية) من جبل زلاغ المشرف على فاس، وكان السور قد برز من الأرض عندما هبت عاصفة وجاء سيل فذهب بالجدران والخيام والقوم. فعدل إدريس عن المشروع”.

كما خص جبل زلاغ الحسن الوزان بفقرة في كتابه (وصف إفريقيا)، حيث كتب: “زلاغ جبل يبتدئ من نهر سبو شرقا، وينتهي غربا على بعد نحو 14 ميلا منه، وتقع قمته، أي أعلى نقطة فيه، في جهة الشمال على مسافة 7 أميال من فاس، ومنحدره الجنوبي خال تماما من السكان، لكن المنحدر المطل على الشمال مليء بتلال ممتازة يقوم عليها عدد لا يحصى من القرى والقصور. وتكاد تكون كل الأراضي الصالحة للزراعة مغروسة بكروم تنتج أجود العنب وأحلى ما ذقتُ منه في حياتي. وللزيتون وسائر الفواكه التي ينتجها هذا الإقليم نفس الجودة، لأن أرضه جافة. وسكان هذه المنطقة من كبار الأغنياء، ليس فيهم من لا يملك دارا بمدينة فاس. ويكاد يكون لجميع أعيان فاس كروم في زلاغ. وفي سفح الجبل بجهة الشمال كذلك سهول بهيجة وبساتين خضر، لأن نهر سبو يسقي هذه السهول من الجنوب. ويصنع البستانيون، بالاستعانة بالمواد المتوفرة لديهم، نواعير ترفع ماء النهر لتروي به الأراضي الزراعية. ولهذا النطاق المزروع مساحة تعادل ما يستطيع حراثته مائتا زوج من الثيران”.

في متوسط القرن التاسع عشر، قام الرحالة الألماني غيرهارد غولفس بزيارة إلى فاس سجلها في كتابه (إقامتي الأولى في المغرب)، حيث دون هو الآخر انطباعاته عن هذا الجبل حين كتب: “الجبل المهيمن على المدينة والذي يمتد حولها في الشمال والشمال الغربي، اسمه “جبل زلاغ”، ربما يصل ارتفاعه أقصاه ألف متر. تحت ذريعة البحث عن الأعشاب للباشا بن الطالب، (باشا فاس في عهد السلطان محمد الرابع) منحت ذات يوم رخصة ركوب الدابة إلى هناك، عبر حزام واسع حافل بحدائق البرتقال والتين وحيث يستخرج ما عدا ذلك البرقوق والمشمش والرمان والعنب وحب الملوك، يصل الإنسان إلى غابات الزيتون، الثلث الثاني تكونه أشجار بلوط دائمة الخضرة وأشجار التوت وغيرها لم تسقط بعد أوراقها، الثلث الأخير ليس له غير الأجم والدوم. عاليا فوق الجبل، حيث يلقي الإنسان نظرة رائعة على المدينة وعلى السهول حتى الأطلس الكبير وعلى السلسلة الممتدة ناحية الغرب “جبال زرهون”، التقيت بزاهد اسمه سيدي موسى، يعيش منذ خمسين سنة في مغارة فوق جبل زلاغ. في صيت ولي كبير يعيش من عطاءات الزوار، لكن غير ذلك له مربيات نحل كبيرة. فوق هضبة جبل زلاغ هناك عدة عيون وحتى حدائق وزراعة.”

كما يصف الجبل الفرنسي روجي لوطرنو بعبارات لا تخلو من لمسة شاعرية: “زلاغ المستقيم الهادئ الأجرد.. تقل المحجات المستقيمة في هذا الركام بالغ الكثافة، وقد نكتشف فجأة في محور زقاق منفذا للبصر على زاوية حي، وسطوحا منضدة تبرز في السماء أو على زلاغ الرهيب”.

لقد احتفظ جبل زلاغ باسمه الأصلي الأمازيغي، والذي يعني فحل المعز، على عكس أسماء جبال أخرى في المغرب وشمال إفريقيا التي حولت أسماؤها إلى أسماء دخيلة، غريبة ولا تعرف عند الساكنة الأصلية. كما حدث مع أسماء سلسلة جبال المغرب الكبرى والتي طغت الأسماء الدخيلة على أسمائها الأصلية. فجبل “درن” والذي يعني في اللغة الأمازيغية جبل الحياة، حيث كان يوفر في سفوحه لساكنته ومن حولها ينابيع الماء، والمساحات الصالحة لزراعة الخضروات والفواكه وثروة حيوانية، وأيضا الحماية، حول اسمه رسميا من طرف المستعمر الفرنسي إلى اسم “الأطلس الكبير”، استنادا إلى نصوص الأساطير الإغريقية والرومانية، التي تصف الأطلس على أنه الإله الذي يحمل قبة السماء على كتفيه وهو أحد الآلهة الأقوياء كأقيانوس وكروتوس. كما حول اسم جبل “فزاز”، متوسط العلو والغني بغابات الأرز وأشجار البلوط ومنه يجري واد أم الربيع، إلى اسم الأطلس المتوسط. أما سلسلة جبال “أهاقار”، والذي يعني الغراب، نظرا لأن هذه السلسلة الجبلية التي تكونها الصخور والمرتفعات، شكلت ملجأ للعديد من الحيوانات الصحراوية والطيور، فقد تم تغييب اسمها الأصلي ليحل محله اسم جبال الأطلس الصغير.

لقد حمل جبل زلاغ اسما مضافا إلى اسمه، وهو اسم “جبل الظل”؛ وذلك لحيلولته بين أشعة الشمس مدة الشروق ووصولها إلى القرى الواقعة أسفله إلى أن تصل الشمس كبد السماء في وقت الظهيرة.

لم يرتبط جبل زلاغ في ذاكرة الساكنة الفاسية بمجاله الزراعي وجودة ثماره من الزيتون والتين والعنب والخضر والفواكه التي تنتجها الأراضي التي تقع في سفحه قبالة مدينة فاس أو الأراضي المتوارية خلف ارتفاعه في بلاد “لمطة” و”خندق حمام”، حيث كان الأثرياء الفاسيون يتنافسون من أجل امتلاك الأراضي الفلاحية هناك، وتشييد الدور ضمنها، حتى يمكنهم الإقامة في ربوعها في موسم الربيع والخريف، بل أيضا يرتبط بالاحتفاء بموسم الولي سيدي أحمد البرنوسي (البرنوصي، كما تنطقه العامة)، الواقع ضريحه على مرتفع بين جبل زلاغ وقرينه جبل تغات، بعيدا عن أسوار مدينة فاس ببضعة كيلومترات؛ وذلك في شهر ماي من كل سنة، حيث يُحج إلى مكان ضريح الولي الزوار بأعداد كبيرة من فاس ومن القرى المجاورة للمدينة وحتى من المناطق البعيدة، ليشهدوا أجواء الاحتفالات الدينية والتجارية والترفيهية لموسم هذا الولي سيدي أحمد البرنوسي.

حسب المراجع التاريخية، منها كتاب “الجذوة المقتبسة والخطرة المختلسة” لابن عربي، ونفح الطيب لمحمد بن أحمد المقري؛ فهو من بلاده البرانس، وقرأ علم أصول الكلام على يد العلامة بن حرزهم (توفي سنة 559 هـ) مع الشيخ أبي مدين الغوت (1115 ـ 1198 م)، وصحب الشيخ أبا مدين إلى جبل الظل، “جبل زلاغ”، وتعبد معه هناك، بموضع يقال له: العباد. ولما رحل الشيخ أبو مدين عن المكان، صعد البرنوسي الجبل وانفرد في خلوته المنسوبة إليه هناك حتى توفي بها ولا يعرف تاريخ وفاته؛ غير أنه من عاش في القرن 6 هـ، 12 م. ولأحمد البرنوسي كتاب شرح فيه أسماء الله الحسنى سماه “الذهب الإبريز والمختصر الوجيز”، وضريحه مشهور ببلاد لمطة إزاء الجبل المذكور زلاغ. وقد قام السلطان الحسن الأول بتجديد هذا الضريح ووسع مرافقه ابنه عبد العزيز.

“يقام الموسم في المنحدرات الصلبة للسفح الشمالي، وفي وسط شجيرات البطم المئوية، يأتي إليه جبالة لإقامة مسابقتهم وهم راجلون، ولا يخلو من التجار المتنقلين ولا من العرافين ونشالي المعاطف، وخلال يومين وليلة يقضون أوقاتا في التسلية تحت حماية الولي الصالح” كتب روجي لوطرنو.

وإلى اليوم، يقام فيه سوق أسبوعي يوم الاثنين، يعرف بسوق سيدي أحمد البرنوصي. يقصده سكان فاس من الطبقة المتوسطة إما عبر المواصلات الجماعية “التاكسيات الكبيرة” أو بسياراتهم الخاصة، لاقتناء الخضر والفواكه واللحوم ومشتقات الحليب والبيض بأثمان مناسبة.

جبل ثغات

الجبل الموازي لجبل زلاغ من الجهة الغربية والممتد على جانب قبالة المدينة المرينية، فاس الجديد، هو “جبل ثغات”، وينطقه سكان فاس تغات، تحريفا لاسمه الأمازيغي الأصلي “ثغاط” أي العنزة؛ فقد ورد لهذا الجبل اسم آخر وهو “جبل اللويزات”، حيث وصفه في القرن الرابع عشر الميلادي المؤرخ علي الجزنائي في كتاب (جني زهرة الآس في بناء مدينة فاس) حين كتب: “شيدت فاس في واد قد التفت أشجاره، وانسابت أنهاره، وتفجرت عيونه، بين جبلين صغيرين: “زالغ” و”اللويزات”، أو هضبتين شامختين: “قبيبات بني مرين” و”المصلى”.

وفي القرن الخامس عشر، وصفه الرحالة الحسن الوزان الجبل: “وهو جبل عال جدا؛ لكنه قليل العرض، ويمتد إلى الشرق حتى نهر بني نصر الصغير، أي على مسافة خمسة أميال المطل على فاس. وجميع الجزء المطل على فاس مزروع بالكرمة، وكذلك القمة. أما القسم الذي يتجه نحو السيخ فهو عبارة عن أراض يزرع فيها القمح. توجد في قمة الجبل عدة كهوف وأنفاق يعتبرها الذين يذهبون إليها بحثا عن الكنوز أمكنة سرية أخفى فيها الرومان عند جلائهم، كما يقال، أشياء نفيسة جدا. وفي فصل الشتاء عندما تكون هناك حاجة للاهتمام بالكروم والعنب، ينهك هؤلاء المجانين قواهم مدفوعين بفضولهم، في حفر واستئناف حفر الأرض الصلبة والصخرية. ومع ذلك يؤكد الجميع أنه لم يعثر فيها على شيء. كما أن ثمار هذا الجبل تبدو كئيبة المظهر، ولعنبها منظر منفّر. وتنضج هذه الثمار والأعناب قبل نظائرها في المناطق المجاورة”.

فمن خلال الشهادات والاهتمام الذي أولاه المؤرخون لهذا الجبل، يبدو أنه جبل مهم ولم يكن أقل أهمية من قرينه جبل زالاغ؛ فقد كان المسافرون من فاس إلى وزان “يتسلقون مرتفعات جبل تغات”، حيث يستعملونه طريقا مختصرا كما جاء في كتاب (فاس ما قبل الحماية). كما كان الجبل، حسب المصدر نفسه، يجلب منه: “الملح المعدني المستخرج من المناجم الواقعة على منحدر جبل ثغات، أو أبعد من ذلك في اتجاه الشمال الغربي”.

لقد ترسخ اسم هذا الجبل في الذاكرة الشعبية لسكان فاس، كما ترسخ اسم جبل زلاغ، حيث نجد في الكلام المتداول أن تغات أصبح تعبيرا عن البعيد جدا فيقال: “الله يديك لتغات”، أي إلى مكان قصي؛ لأن جبل ثغات يقع نسبيا في مكان جانبي بعيد عن المدينة القديمة، مقارنة بجبل زلاغ الذي يطل عليها مباشرة. فالجبلان يكونان معا أسطورة تخيلية، قوامها ذكر وأنثى لحيوان أليف، على الرغم من معايشة الرعاع والاستفادة من ألبانه وجلوده، إلا أنه حيوان مستعصي الطبيعة وليس بحيوان انقيادي كالخروف مثلا. فقد مسخ ذكر وأنثى المعز إلى صخرتين عظيمتين، تحولتا مع مرور الزمن إلى جبلين يمثلان حارسين للمدينة من طرفيها الشرقي والغربي. وحتى وإن كان الجبلان في أصلهما صخور جامدة، فهما في الذاكرة والمتخيل الشعبي حيوانان، حيان، متحركان. ولأسمائهما في صيغتهما الأولى الأصلية، دلالة على هوية حافظت على أصول تسميتها المغربية.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق ضبط 29 قضية حيازة مواد مخدرة وأسلحة نارية وذخائر خلال حملة أمنية بقنا
التالى «رونالدو» يرد على اتهامه باللعب في السعودية من أجل المال