تُعدُّ ظاهرة ارتداء الأقراط في أماكن مختلفة من الجسم (الأذن، الأنف، السرة، اللسان)، أو ما يعرف بـ”البيرسينغ”، من الممارسات التي باتت تستهوي العديد من الشباب والمراهقين في المغرب، ذكورا وإناثا، الذين انخرطوا في هذه الموضة التي لا تخلو من إيحاءات ثقافية متعددة، إذ يؤكد عدد من الباحثين وجود أسباب مختلفة تفسر الإقبال عليها، من بينها الرغبة في التعبير عن الذات، والتمرد على الأفكار السائدة في المجتمع، بالإضافة إلى التأثر بالتوجهات الثقافية التي تعززها وسائل التواصل الاجتماعي.
وأكد المهتمون بهذا الموضوع، في حديث لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن اهتمام الشباب المتزايد بهذه الموضة يقتضي تفعيل دور المتخصصين في العلوم النفسية والاجتماعية وعلماء الشريعة لدراسة أسباب هذا التوجه، مشددين على ضرورة توعية الشباب والمراهقين المغاربة بمخاطرها الصحية، وكذا تفعيل دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية في بناء قدراتهم، بما يمكنهم من تجنب “التقليد الأعمى” وتفادي التصادم مع القيم الثقافية والدينية للمجتمع.
في هذا الإطار، قال خالد التوزاني، باحث في الهوية المغربية رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي، إن “هذه الظاهرة ليست جديدة في المجتمع المغربي، فهي تعود إلى عقود مضت، تظهر في فترات معينة ثم تختفي وتعود من جديد، لأنها مرتبطة بظروف ثقافية ونفسية عابرة، إذ سرعان ما يتخلى الشباب عن هذه الموضة عندما يتحقق النضج في الشخصية أو يعرفون أضرار هذه الظاهرة، فيكون نفورهم منها بمجرد معرفة الخلفيات التي تقف وراءها، وخاصة تلك المرتبطة بجماعات ثقافية لا تعترف بالدين أو الأخلاق، وترى في الجسد وسيلة للعرض والمتعة”.
وأضاف التوزاني أن “الشباب قد يقتحمون هذه الموضة من باب التجربة وليس الاقتناع، غير أنه لا توجد دراسات ميدانية لرصد الأسباب الحقيقية في الواقع والتحقق من الخلفيات التي تقف وراءها، وهو ما يتطلب من الباحثين في العلوم النفسية والاجتماعية التصدي لدراسة هذه الظاهرة، وأيضا ينبغي لعلماء الشريعة أن يقدموا كلمتهم في هذا المجال، ولا يتركوا الساحة فارغة، لأن غياب التوعية والتحسيس قد يقود الشباب إلى تبني المزيد من أشكال الموضة التي تخالف هوية المجتمع المغربي وتسيء للثقافة المغربية المحافظة، التي على الرغم من انفتاحها إلا أنها مؤطرة بثوابت دينية ووطنية، ومرتبطة بعادات وتقاليد يطبعها الحياء والعفة والالتزام بروح الجماعة”.
وتابع المصرح لهسبريس بأن “توجه بعض الشباب المغاربة إلى ما يسمى البريسينغ يمكن تفسيره من خلال عوامل ثقافية واجتماعية ونفسية عدة، على رأسها محاولة التميّز والاختلاف عن السائد والمألوف، وذلك بالتمرد على التقاليد الثقافية أو العائلية، أي البحث عن هوية جديدة ومتفردة تميزهم عن الآخرين، فيحقق لهم هذا الاختلاف إحساسا بالحرية والتفرّد”، مضيفا أن “هذا الأمر يعد أيضا وسيلة بصرية لإثارة الانتباه أو الإعجاب نتيجة هذا الاختلاف من منظور الشباب، وذلك على الرغم من رفض المجتمع المغربي لهذه الظاهرة”.
ومن الأسباب الأخرى المفسرة لهذه الظاهرة، ذكر المتحدث ذاته “تأثير الإعلام المفتوح، إذ إن الاحتكاك المستمر للشباب مع مواقع أجنبية وإعلانات وصفحات تروج لهذه المظاهر باعتبارها موضة عصرية وأسلوبا للتواصل والحداثة، وأنها رموز عالمية اعتمدها المشاهير عبر العالم، يجعلهم يتبنون هذه المظاهر، التي تعبر عن انتمائهم إلى جماعات معينة موسيقية أو رياضية أو ثقافية بديلة لما هو مألوف في المجتمع المغربي، حيث يكون تبني تلك المظاهر وسيلة للانضمام إلى تلك الجماعات والحصول على القبول والاعتراف بين أفرادها من خلال هذه الرموز البصرية في الجسد”.
وخلص التوزاني إلى “ضرورة توعية الشباب بخطورة هذه الموضة، من خلال تعزيز التثقيف الصحي، أي نشر معلومات طبية دقيقة حول مخاطر البريسينغ وأضراره الصحية بعيدة المدى. وأيضا فتح حوارات مع الشباب لمنحهم فرصة الحديث عن احتياجاتهم النفسية والاجتماعية التي تدفعهم لمثل هذه الخيارات المغايرة للمألوف، ودفعهم للتعبير عن الذات بطرق أخرى مثل الإبداع والفنون أو الرياضة، وعلى وسائل الإعلام أن تقوم بدور التنوير والتثقيف، وكذلك البرامج التربوية والجامعية، حتى لا يبقى المجال فارغا”.
من جهته، قال الحسين العمري، باحث في السوسيولوجيا، إن “انتشار ظاهرة ارتداء الأقراط في صفوف مجموعة من الشباب والمراهقين المغاربة يعزى إلى عدد من الأسباب والعوامل، أبرزها التقليد الأعمى لقيم المجتمع الغربي التي تحيل على الانفتاح والحداثة، ثم وسائل التواصل الاجتماعي التي خلقت نماذج ثقافية عديدة يسعى العديد من الشباب إلى تبنيها بغض النظر عن مسألة ما إذا كانت مقبولة أم مرفوضة داخل المجتمع المغربي، حيث ساهمت هذه النماذج في تغيير تمثلات الشباب حول الجسد واللباس وغيره”.
وأوضح العمري، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “انتشار هذه الظاهرة في صفوف المراهقين مرتبط بخصوصية مرحلة المراهقة وعدم اكتمال النضج العقلي، الذي يدفع عددا منهم إلى التمرد على التقاليد والقيم السائدة في المجتمع، والبحث عن التميز عن الآخرين ولفت الأنظار من خلال تبني أنماط سلوكية مستوردة، وإن كانت ترمز في كثير من الأحيان إلى ميول معينة لا يتسامح معها المجتمع المغربي”، مشيرا إلى أن “ثقب الجسد بالأقراط وبشكل عشوائي دون استشارة المختصين في إطار البحث عن التميز قد يفضي إلى مضاعفات صحية خطيرة”.
وتابع الباحث ذاته بأن “هذه المظاهر المستوردة تشكل خطرا على القيم والمبادئ الأخلاقية المتعارف عليها في المجتمع، خاصة وأن بعضها يحيل على تصورات معينة، وهو ما يفرز نوعا من التناقض والصراع بين الثقافة المحلية والثقافات والنظم المستوردة، الأمر الذي يثير مسؤولية الأسرة والمدرسة والإعلام والمجتمع المدني في مواكبة الشباب في الفترات العمرية الحرجة، من أجل بناء شخصية متوازنة ومنفتحة على مختلف الثقافات والأفكار الغربية، لكن دون الانجرار وراءها بشكل غير مفكر فيه ولا في تبعاته الصحية والاجتماعية والنفسية”.