كان متوقعًا سيطرة جبهة النصرة على حلب المدينة بعد أنّ سيطرة على ريفها قبل يومين، وبالتالي السيطرة على أدلب؛ فما حدث في ثاني أكبر المدن السورية لا يختلف كثيرًا عما حدث في 29 يونيو من العام 2014 عندما سيطرت قوات داعش على الرقة والموصل، ثم أعلنت دولتها المسماة بالدولة الإسلامية.
صحيح نجح المجتمع الدولي في إسقاط دولة داعش بعد 5 سنوات من المعارك حيث خرج الرئيس الأمريكي وقتها، دونالد ترامب، في 22 مارس من العام 2019 معلنًا سقوط دولة داعش؛ فمنذ هذا التاريخ وحتى يومنا هذا والتنظيم نجح في تنفيذ مئات العمليات النوعية رغم إعلان السقوط، بما يُعني أنه مازال يمتلك قدرة نجح من خلالها في تهديد أمن الدول التي يتواجد فيها وكذلك مواطنيها.
تُركت جبهة النصرة لواقع مكتوب وهو السيطرة على حلب وأدلب بشكل كامل؛ فقد دارت المعارك من يوم الأربعاء 27 نوفمبر حتى نجحت في السيطرة بشكل كامل على المدينة بعد ثلاثة أيام من المعارك، وسط صمت دولي وربما وعود بالتدخل ودعم القوات السورية، وهو ما لم يحدث على الأقل حتى سيطرة الجبهة على كامل المرافق في المدينة.
المشهد في سوريا اليوم لا يختلف كثيرًا عن المشهد الذي جرى في العراق إبان الغزو الأمريكي في العام 2003، فسيطرة داعش وظهورها كان مرتبطًا بحالة الفوضى التي خلفها الغزو، وواشنطن تتحمل جزء من مسوؤلية ظهور داعش بغزوها للعراق، كما أنها تتحمل جزء من مسئولية سيطرة النصرة وأخواتها من التنظيمات المسلحة لأنها هي من أشعلت الحروب الحالية أو على الأقل تركتها تأكل الأخضر واليابس.
ولعل الحرب والصراعات التي ضربت العالم قبل أكثر من عامين، سواء الحرب الروسية في أوكرانيا والتي تدخل فيها القطبين الكبيريين، أمريكا وأوروبا من جانب في مواجهة روسيا وحلفائها من جانب آخر، هيئ قليلًا البيئة التي ساعدت التنظيمات المتطرفة في أوروبا من بداية الظهور والتحرك، ثم زادت الأمور بلة عندما قامت الحرب الإسرائيلية منذ عام وشهرين وما خلفته من فوضى في منطقة الشرق الأوسط.
ولعل الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان ساعدت هذه التنظيمات في خطابها، أو لعل هذا الخطاب كان أكثر قبولًا عند الكثير من النّاس نظرًا لحرب الإبادة التي شنتها إسرائيل ومازالت على دولتين عربيتين، وهنا كانت تبدو الإستجداءات المرتبطة بضرورة إيقاف هذه الحرب العبثية.
فحالة الفوضى التي وفرتها الحرب الإسرائيلية بدعم واشنطن اللامتناهي ساعد بصورة كبيرة في بروز خطاب تيارات العنف والتطرف، وجعل هذا الخطاب مطلوبًا لمواجهة خطاب آخر أكثر تطرفًا؛ لا نُساوي بطبيعة الحالة بين تطرف إسرائيل ومواجهتها، فالمقاومة من حق الشعوب والدول والأفراد والجماعات، ولكننا نوصف الواقع ولا نذكر المقاومة، وإنما يأتي ذكرنا على الحركات المتطرفة فقط.
يُعاد ترتيب المنطقة العربية من جديد، ويبدو أنّ هذا الترتيب سوف تكون فيها تنظيمات العنف والتطرف رقمًا مهمًا، هكذا تُريد واشنطن وإسرائيل، التي وعدت بشرق أوسط جديد، وهنا يُفسح المجال لكل التنظيمات المتطرفة في المنطقة العربية إما بالدمج أو بالظهور وعودة النشاط، وهنا مقصود كل التنظيمات المتطرفة، وهو ما يُهدد الأنظمة السياسية المستقرة، فما تُريده واشنطن سوف تحققه حتمًا من خلال وجود هذه التنظيمات.
تُريد إسرائيل ومعها واشنطن أنّ تستبدل قطع الشطرنج، بحيث تخرج القوات الموالية لإيران وحزب الله مقابل سيطرة جبهة النصرة وباقي الفصائل الإسلامية المسلحة ذات الخلفية السنّية في ظل غياب لسيادة الدول؛ استبدال ميليشيات مسلحة ذات خلفية شيعية بملشيات مسلحة ذات خلفية سنيّة.
وجبهة النصرة هي النسخة المعدلة من تنظيم القاعدة، بعد أنّ فكت ارتباطها بالتنظيم وقامت بتغيير إسمها إلى جبهة النصرة ثم هيئة تحرير الشام، والهدف طبعًا هو أنّ تقبلها واشنطن، وبالفعل نالت الحركة قبول واشنطن لمجرد تغيير الإسم وباتت أداة للأتراك في مواجهة النظام السوري، ورضيت واشنطن أنّ تواجه خصمها في الشرق الأوسط بالنصرة، كما واجهت روسيا في أفغانستان، بالمقاتلين العرب، الذين شكلوا نواة تنظيم القاعدة فيما بعد.
وتبدو الملاحظة مهمة في هذا الشأن، واشنطن تعاملت مع مقاتلين تحولوا فيما بعد وباتوا قاعديين، وتعاملت مع قاعديين أرادوا أنّ يستفيدوا من المعادلة السياسية بعد أنّ غيروا أسمائهم، فأمريكا تحكمها المصلحة حتى ولو وضعت يدها في يد التنظيمات المتطرفة.
دونالد ترامب يُهندل المنطقة العربية قبل أنّ يدخل البيت الأبيض؛ فالرجل يدعم إسرائيل ولكن من خلال رقعة الشطرنج المشار إليها، وهنا تبدو هذه التنظيمات الحصان الرابح والرقعة الأهم التي يقتل بها خصومه في منطقة الشرق الأوسط.
نتحدث اليوم عن منطقة الشرق الأوسط التي تبدو في حلة جديدة، شعارها داعش والقاعدة وجبهة النصرة، وسط حروب وصراعات تمثل وقودًا لهذه التنظيمات، فضلًا عن سياسات دولية تصب في نفس الإتجاه.