شهدت الساحة السياسية الألمانية في الآونة الأخيرة تطورات متسارعة، أبرزها الأزمة التي هزت الائتلاف الحكومي الحاكم، إذ ذكر موقع دويتش فيله الإخباري أن هذه الأزمة، التي بدأت بتصاعد الخلافات بين مكونات الائتلاف، تفرعت إلى أبعاد متعددة أثرت بشكل مباشر على المشهد السياسي والاقتصادي في ألمانيا، بل وتجاوزت حدودها لتؤثر على الاتحاد الأوروبي بأكمله.
وبالفعل، تشهد الساحة السياسية الألمانية أزمة عصيبة تهدد بإلحاق المزيد من الضرر بالصناعات الألمانية الرائدة في مجالات السيارات والمصارف والطاقة، والتي تواجه بالفعل تحديات عالمية صعبة بسبب انتخاب دونالد ترامب والحرب التجارية مع الصين، وتستعد ألمانيا لشهور من الغموض وانعدام اليقين بعد انهيار الائتلاف الحكومي المكون من ثلاثة أحزاب، وذلك عقب سلسلة من الخلافات، كان آخرها حول سبل إنعاش اقتصادها المتعثر، وهو الأكبر في أوروبا، وفقًا لموقع دويتش فيله الإخباري.
وكان بنك كوميرزبانك، ثاني أكبر مقرض في ألمانيا، يعتمد على برلين لحمايته من استحواذ غير مرغوب فيه من قبل منافس إيطالي، بينما كانت الصناعة تأمل في مبادرة وطنية من شأنها أن تعزز مكانة شركة فولكس فاجن للسيارات وغيرها.
أما الآن، أصبحت الحكومة فعليًا مجرد "إدارة تصريف أعمال" إلى حين إجراء انتخابات جديدة، مما يعيق قدرتها على مراجعة السياسات ويترك الشركات الألمانية في مهب الريح، وصرّح كريستيان كولمان، الرئيس التنفيذي لشركة إيفونيك إندستريز للكيماويات، قائلًا: "في مواجهة الأزمات العالمية وعدم اليقين، نحن بحاجة إلى الوضوح. يجب أن يكون المسار إلى انتخابات جديدة بأسرع وقت ممكن. فالولايات المتحدة أو الصين لا تنتظرنا".
ومؤخرًا، أعيد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، مما أشعل المخاوف في أوروبا بشأن فرض رسوم جمركية على المصنعين الأوروبيين والمزيد من المواجهة مع الصين، أكبر شريك تجاري لألمانيا ووفقًا لتقرير صادر عن معهد الاقتصاد الألماني IW، فإن الرسوم الجمركية التي تبلغ نسبتها 20% والتي أشار إليها ترامب خلال حملته الانتخابية، يمكن أن تؤدي إلى تقلص اقتصاد ألمانيا المعتمد على التصدير بنسبة تصل إلى 1.5% في عامي 2027 و2028.
إقالة وزير المالية
بعد فترة وجيزة من تداول هذا الخبر، قام المستشار الألماني أولاف المستشار شولتز بإقالة وزير ماليته كريستيان ليندنر، حيث تفاقمت توترات استمرت شهورًا حول الإنفاق وسياسة الصناعة، وأدى ذلك إلى خروج الحزب الليبرالي من الحكومة، منهيا الائتلاف، والذي شكل إلى جانب انتخاب ترامب ضربة مزدوجة لألمانيا. ووصف روبن وينكلر، خبير الاقتصاد في دويتشه بنك، الوضع بأنه "ضعف مضاعف".
وخلال مؤتمر صحفي عُقد على عجل، وعد المستشار شولتز، الذي يحيط به علمان ألماني وأوروبي، بتقديم مجموعة من الإجراءات للموافقة عليها في ديسمبر بشأن قضايا ساخنة مثل المعاشات التقاعدية والهجرة، كجزء من حزمة نمو مكونة من 49 نقطة وقال المستشار شولتز: "يشمل ذلك إجراءات فورية لصناعتنا، والتي أناقشها حاليًا مع الشركات والنقابات والجمعيات الصناعية".
مع عدم وجود أغلبية برلمانية ومطالب المعارضة من المستشار شولتز بإجراء تصويت ثقة فوري وإجراء انتخابات، فإن آمال تنفيذ أي من هذه الإجراءات قد تلاشت تقريبًا.
كما سيواجه بنك كوميرزبانك، الذي ناشدت إدارته برلين للحصول على الدعم في مسعاها لرفض تحركات بنك يونيكرديت الإيطالي، صعوبة في إيصال صوته وعلى الرغم من أن المستشار شولتز وغيره من القادة السياسيين أيدوا علنًا بنك كوميرزبانك في سعيه للبقاء مستقلًا، فإن الانتخابات الصعبة، التي تواجه فيها بعض الأحزاب خطر الزوال، ستصرف انتباههم.
ويخشى البعض ممن هم على دراية بتفكير كوميرزبانك أن يسرع بنك يونيكرديت من خططه ويقدم عرض استحواذ في الأشهر المقبلة، تمامًا في الوقت الذي تكون فيه برلين خارج العمل، ويقول جان دوشيك، كبير المفاوضين في نقابة فيردي العمالية: "يجب ألا تغفل الحكومة قضية كوميرزبانك في هذه الحالة. نتوقع منها اتخاذ موقف واضح ضد الاستحواذ من قبل يونيكرديت".
أسباب الأزمة
تعددت الأسباب التي أدت إلى تفاقم الأزمة السياسية في ألمانيا، ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
اختلاف الأيديولوجيات: تشكل الائتلاف الحكومي الألماني من أحزاب ذات أيديولوجيات مختلفة، وهو ما جعل من الصعب التوصل إلى توافق حول العديد من القضايا السياسية والاقتصادية.
الأزمة الاقتصادية العالمية: تأثرت ألمانيا، كغيرها من الدول، بالأزمة الاقتصادية العالمية التي تفجرت عام 2008، مما زاد من حدة الخلافات حول كيفية التعامل مع آثار هذه الأزمة.
استمرار الأزمة الروسية - الأوكرانية: أدت الأزمة الروسية الأوكرانية إلى تفاقم الانقسامات داخل الائتلاف الحكومي الألماني، خاصة فيما يتعلق بسياسة الطاقة والاعتماد على الغاز الروسي.
الانتخابات البرلمانية الأخيرة: أدت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة إلى تقارب شديد بين الأحزاب، مما جعل من الصعب تشكيل حكومة مستقرة.
تداعيات الأزمة
أدت الأزمة السياسية في ألمانيا إلى العديد من التداعيات، منها:
الشلل الحكومي: أدت الخلافات المستمرة بين مكونات الائتلاف الحكومي إلى شلل في عملية صنع القرار الحكومي، مما أثر سلبًا على قدرة ألمانيا على التعامل مع التحديات التي تواجهها.
تراجع الثقة في المؤسسات: أدت الأزمة إلى تراجع الثقة في المؤسسات السياسية الألمانية، خاصة الأحزاب السياسية والبرلمان.
التأثير السلبي على الاقتصاد: أدت الأزمة إلى حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي، مما أدى إلى تراجع الاستثمارات وتباطؤ النمو الاقتصادي.
التأثير على الاتحاد الأوروبي: أدت الأزمة إلى ضعف دور ألمانيا في الاتحاد الأوروبي، مما أثر سلبًا على قدرة الاتحاد على التعامل مع التحديات التي تواجهه.
السيناريوهات المستقبلية
هناك عدة سيناريوهات محتملة لتطور الأزمة السياسية في ألمانيا:
تشكيل حكومة جديدة: قد يتمكن الأحزاب السياسية من التوصل إلى اتفاق لتشكيل حكومة جديدة، ولكن هذا الأمر يتطلب تنازلات كبيرة من جميع الأطراف.
إجراء انتخابات مبكرة: قد يتم اللجوء إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة في حال فشل الأحزاب في تشكيل حكومة جديدة.
استمرار الأزمة: قد تستمر الأزمة السياسية في ألمانيا لفترات طويلة، مما سيؤدي إلى مزيد من التدهور في الوضع السياسي والاقتصادي، وتجدر الإشارة إلى أن الأزمة السياسية في ألمانيا هي أزمة معقدة ومتشعبة، وتتطلب حلولًا شاملة وجذرية. يجب على الأحزاب السياسية الألمانية العمل معًا للخروج من هذه الأزمة، والحفاظ على استقرار ألمانيا ودورها الريادي في أوروبا.