في أغسطس/آب 2024، كتبت مقالًا تحت عنوان "معضلة الغاز في مصر"، ذكرت فيه أن أزمة انقطاع الكهرباء سوف تستمر معنا لفترة حال الاكتفاء بشحنات الغاز المتعاقد عليها وعدم الاتفاق على شحنات جديدة تغطي الطلب، في ظل تراجع الإنتاج المحلي وعدم وجود فرصة لدخول حقول جديدة الخدمة على المدى القريب.
ذكرت نصًا آنذاك، أن "ما يزيد الموقف تعقيدًا هو وجود مشكلة في صحة الأرقام واتساقها التي من المفترض أن يبني على أساسها المسؤولون التقديرات وخطط التعامل والاستيراد، مع الواقع الفعلي لإنتاج الطاقة في ظل إشكاليات تواجه بعض الحقول والشركات الأجنبية، وأيضًا بحكم أزمة العملة التي تحكّمت في جانب كبير من القدرة على المواجهة".
وقد كان.. تجاوزت فترة الانقطاع ما حدّدته الحكومة موعدًا لانتهاء الأزمة، إلى أن تم التعاقد على شحنات إضافية بأسعار عالية بالطبع بحكم الطلب الفوري، وعندها فقط توقفت الأزمة، وإن كانت بصورة مؤقتة في ضوء ما تكشفه البيانات الجديدة عما ينتظرنا في 2025، وهو ما أتناوله تفصيلًا فيما يلي.
وبداية، حسب البيانات الرسمية، فقد انخفض إنتاج الغاز الطبيعي في مصر إلى 4.48 مليار قدم مكعبة يوميًا في سبتمبر/أيلول الماضي، وهو أدنى مستوى منذ عام 2017، وفي مقابل ذلك يصل متوسط استهلاك الغاز خلال أشهر الصيف من 7.2 إلى 7.4 مليار قدم مكعبة يوميًا.
يكشف ذلك عن فجوة يومية بين الإنتاج والاستهلاك تُقدّر بـ3 مليارات قدم مكعبة، ورغم إمكان العمل الفعلي على توفير ثلثي هذا الرقم من محطات التغويز أو الاستيراد من خط أنابيب الشرق، فإن هذا الأمر لا يمكن أن يؤمّن تفادي الأزمة.
ويوضح الرسم البياني أدناه حجم إنتاج مصر من الغاز شهريًا، منذ عام 2022 وحتى أحدث البيانات في سبتمبر/أيلول 2024.
فهناك إمكان لتغطية 750 مليون قدم مكعبة يوميًا من محطة إعادة التغويز فى العين السخنة، كما تشير بيانات الحكومة (رغم أن بيانات الشركة المالكة لوحدة التغويز العائمة تشير إلى نصف هذه القدرة)، وكذا 250 مليون قدم مكعبة من تلك الموجودة في ميناء العقبة بالأردن، قبل نقلها بأنابيب إلى مصر.
وأيضًا يمكن تغطية مليار قدم مكعبة على الأكثر من حقلي تمار وليفياثان (الإسرائيليين)، وهو متوسط ما تحصلت عليه مصر خلال العام الحالي (مع عدم وضوح مسار خطة زيادة إنتاج الحقلين حتى حينه).
يتكشّف بعد ذلك استمرار وجود عجز يُقدر بمليار قدم مكعبة يوميًا، لا يمكن تدبيره لعدم وجود البنيه التحتية اللازمة لذلك حتى الآن، فعلى الرغم من الحديث عن استجلاب وحدة إعادة تغويز عائمة أو تعديل بمحطات إسالة دمياط، فإن أيًا من هذه البدائل لم يدخل حيز التنفيذ.
عجز الغاز في مصر
في تقديري، فإن هذا العجز (ثلث الفجوة) سوف يتسبّب على الأقل في إجبار الحكومة على تخفيف أحمال الكهرباء لمدة ساعتين يوميًا خلال أشهر الصيف (صيف 2025)، ما لم يتم تدارك الموقف من الآن والعمل على خطط متوسطة المدى قد تضمن عدم التعرض لهذه الأزمة الخانقة سواء على مستوى الإنتاج أو الرضا الشعبي.
وبما أنه ليس من المتصوّر دخول أي حقول جديدة إلى مرحلة الإنتاج خلال الأشهر الـ6 المقبلة، وكذا عدم الإعلان حتى الآن بدائل للبنية التحتية أو تعاقدات طويلة الأمد، فهناك مشكلة قادمة لا محالة بداية من شهر مايو/أيار المقبل.
وما يعزّز من التوقعات بحلول الأزمة، هو ما ظهر مؤخرًا من إشكاليات تواجه تشغيل محطة التغويز في العين السخنة، وهو ما دفع 4 ناقلات تحمل الغاز المسال إلى تحويل وجهتها بعيدًا عن مصر، بحسب ما ذكرته منصة أرغوس المتخصصة (وتناولته منصة الطاقة هنا)، إذ تسبّبت إشكاليات تشغيلية في المحطة -تخص منظومة إعادة التعبئة- في خفض طاقة إعادة التغويز لدى المحطة إلى النصف.
ويبدو هذا الأمر مبهمًا بعض الشيء في ظل تصريحات نشرتها وكالة بلومبرغ بأن تحويل مسار الشحنات كان بسبب عدم الحاجة إليها، وهو ما يفرض سؤالًا بديهيًا عن دواعي التعاقد عليها ما دام لم تكن لها حاجة من الأساس.
تحرّك سريع
يفرض علينا -الحكومة- كل ما سبق، ضرورة التحرك سريعًا للعمل على إصلاح الأعطال بمحطة العين السخنة الحالية (إن صح الأمر)، وكذا النظر في عكس دورة محطة إسالة دمياط بشكل متأنٍ أو تسريع وتيرة التعاقد على وحدة تغويز جديدة.
وكذلك يجب العمل بشكل ممنهج على سداد مستحقات الشركات الأجنبية العاملة في المجال حتى نضمن استمرار التنقيب والإنتاج.
فليس من الممكن الاستمرار في نظام مدفوعات تارة بالجنيه وتارة بالدولار، دون تعهد بجدول سداد واضح للشركات، كما تم سابقًا في عامي 2011 و2017.
وفي ظل الاعتماد المتزايد على الغاز المستورد، سوف يتطلّب الأمر حتمًا مراجعات للتسعير الصناعي والمنزلي، إذ لن تتحمّل الموازنة فروق التكلفة المحتملة، ناهيك بتزامن هذه الفترة مع جدول سداد القروض الخارجية وأقساطها المزدحم للغاية.
وبجانب إعادة تقييم أولويات الاستيراد، بالتركيز على تأمين شحنات جديدة من الغاز بأسعار تنافسية مع تحسين شروط التعاقد، يجب الاهتمام على المدى الطويل بتحفيز الاستثمارات في القطاع، من خلال تشجيع الشركات الأجنبية على ضخ استثمارات جديدة في التنقيب والإنتاج عبر حوافز اقتصادية واضحة.
ختامًا، فأزمة الطاقة (أو الغاز في مصر) ليست مجرد تحدٍ اقتصادي، وإنما هي قضية تمسّ استقرار المجتمع وخطط التنمية التي تعاني إشكاليات من الأساس، وبالذات في إطار توجه الدولة صوب التصنيع، وهو ما يزيد الحاجة إلى تحرك مبكر وحاسم لضمان أمن الطاقة، وتجنّب انقطاعات تؤثر في حياة المواطنين والاقتصاد، خاصة أن اتخاذ إجراءات استباقية الآن قد يحمي من تبعات أزمة أكبر في المستقبل القريب أو على الأقل سوف تقلّل تكلفتها المادية.
ومع هذا تبقى الفريضة الغائبة، وهي التخطيط طويل الأمد لملف الطاقة وتجاوز الدائرة الجهنمية من دورات العجز والفائض المتتالية، خاصة أنه من غير الطبيعي أن تدخل مصر وتخرج من دورات مماثلة على مدار ثلاثين عامًا دون ثمة حلول أو اعتبار للدروس المستفادة.
*دكتور محمد فؤاد، خبير اقتصادي ونائب سابق في البرلمان المصري.
*هذا المقال يعبّر عن رأي الكاتب، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
اقرأ أيضًا..