استشعرت رحمة المودن، ابنة “الفقيه الليبرالي” الذي كان يشتغل إماما في جبل طارق خلال القرن الماضي، أن في حكايتها لغزا ما وعبرا مثيرة تحتاج أن تندس في الكتب وبين الورق لتغدو القصة ملكا للقراء؛ هكذا فقط يصبح الشغف الممتد عند “طفلة عنيدة” إصرارا يرافقها وهي امرأة أعمال مغربية ناجحة في مملكة الأراضي المنخفضة، حيث صارع تمسكها بالحلم طواحين البلد الأوروبي.
تفاصيل حكاية رحمة “الملهمة” تقرأها لكم هسبريس في مذكراتها الموسومة بـ”رحمة.. الطريق نحو حريتي”، الصادرة عن مؤسسة دار سوشبرس للنشر ومجلس الجالية المغربية بالخارج. المؤلف مترجم من اللغة الهولندية إلى اللغة العربية من طرف مصطفى أعراب، وتستعرض فيه الكاتبة “نضالاتها وانتصاراتها في سعيها نحو الحرية والتحرر والاستقلال، مع إثارة انتباه القارئ حول قضايا معاصرة كالنوع الاجتماعي، والثقافة، والهوية، والمساواة”.
طفلة بتوقيع مغاير
ولدت رحمة في طنجة سنة 1959. هي ابنة لإمام وأخت لذكر و5 إناث. بعضهن أكبر منها والبعض الآخر أصغر. لكل واحد “تغريده الخاص”، وهي تصف نفسها بـ”الأكثر صخبا الباحثة عن الجبهة الأمامية دائما”. حتى اليوم، تبدو رحمة مزهوة ومنتشية بالطفلة التي كانتها، تتحدث عنها رغم المسافة الزمنية (الطفولة/الحاضر) والمكانية (طنجة/أمستردام) بإعجاب شديد، كيف لا وهي التي تسرد أنهم سموها “عنيدة” و”شقية”.
منذ طفولتها كانت لديها حساسية مفرطة في أن “ترى الفتيان بالنهار يجوبون هكذا شوارع طنجة بحثا عن المتعة. أما نحن، فإن سمح لنا بالخروج، مع أن الأمهات كن يفضلن أن نظل داخل البيت، فيكون الإذن بالخروج مقيدا بعدم الابتعاد عن البيت الذي نسكنه. لم تكن الأمهات يفضلن التعليق عن الوضع. وكنت كلما اشتكيت لأمي، وقد فعلت ذلك عدة مرات، حريتي المقيدة وكوني أشعر بنفسي محبوسة كما لو كنت مجلة، كانت توبخني”.
ذهبت إلى المدرسة مرات عدة غير أنها اكتشفت أن هناك “توترا” ما بينها وبين التمدرس، فهي كانت تفكر في الزواج من مغربي مقيم خارج الديار من أجل الهجرة معه. تحكي أنها كانت متشبعة للغاية بفكرة الرحيل. حتى إنها جربت الوقوف في القصبة في طنجة خلال الثمانينات. كانت هذه المنطقة تستقطب الكثير من الأجانب، وكانت رحمة تعول على نزول مسنة من إحدى الحافلات وتصطحبها معها. ففكرت في الخطة الأخرى: الزواج والرحيل.
حين صارت رحمة بالغة تقدم لخطبتها جمركي ثم أستاذ فرفضتهما معا قبل أن تصبح فجأة، وفق حكيها، زوجة لبشير، الذي كانت تشتري عنده الحلوى وحبوب عباد الشمس حين كانت في سن العاشرة. رجل تقول إنه حين تقدم لها كان يشتغل بستانيا في إسبانيا، وعاد ليتزوجها ويذهب بها إلى “الأرض الموعودة”: هولندا. هذا البلد الذي دخلته رسميا في دجنبر 1975، حينها كان “البرد يقطع الأنفاس وبطنها يكبر شيئا فشيئا”، إشعارا باقتراب المخاض.
نحو “الوعد” الأوروبي
كان فصل الشتاء الأول لها بهولندا باردا جدا، وقد أعلن شهر دجنبر لسنة 1975 عن الفترة الأكثر بردا في السنة بنزول الصقيع. البداية كانت في غرفة نوم ومطبخ صغير. كانت تغطي نفسها نهارا بالبطانيات لمقاومة البرد، وتقضي اليوم في النظر إلى الخارج من خلف النافذة التي كان ينفذ منها الضوء إلى الطابق العلوي”.
قبل أن تنجب ابنها مروان في يونيو 1976، مرت رحمة بظروف صعبة، منها عدم تحكمها في لغة الهولندييين، تقول: “لم يكن لدي تواصل مع أحد، كان بشير يسمح لي بالخروج لكن ليس من أجل أن أتبادل الكلام مع أي كان (…) خلال الأسابيع والأشهر الأولى من حياتي في هولندا، كانت وتيرة وحدتي تزيد بقدر ما تزيد وتيرة انتفاخ بطني”.
لكن، حين وضعت مولودها الثاني الذي كان أنثى سمتها أميمة في غشت 1978، صارت تشعر بأن “الأسرة اكتملت، غير أن حياتها لم تكتمل بعد، ولم تر أحلامها تتحقق بمجرد مجيئها نحو هولندا”، فقررت العمل خارج البيت: “لو خرجت للعمل خارج البيت سأحطم الصورة التي كانت لبشير عن الأسرة النموذجية. هو الآن يعرف بعض طباع التمرد لدى زوجته، لكنه لم يكن يتخيل أنني سأفكر يوما في القيام بأمور أخرى تتجاوز دوري كربة بيت، ولم يكن يعلم أنني كنت غير مرتاحة لهذا الدور الذي يحد من طموحاتي ويعيق بلوغ ما أريده”.
في نهاية سنة 1978، نالت موافقة زوجها للعمل خارج البيت، بشرط أن يرافقها إلى مقر العمل، وتحكي: “ذهبت معه إلى مركز الكومبيوتر التابع لمحطة توليد الكهرباء التابع لبلدية أمستردام حيث كان يشتغل في التنظيف مساء. عند المدخل كان مستخدمو التنظيف ينتظمون في مجموعتين. المجموعة الأولى تخص الرجال وكانوا مكلفين بتنظيف الطابق الأول، المجموعة الثانية تتكون من النساء وكانت تتكفل بتنظيف الطابق السفلي، وهنا كانت بداية عملي خارج البيت. في الحقيقة استغربت كثيرا مما رأيته”.
حين بدأت “تعمل بحماس منقطع النظير، وتملأ الدلو تلو الآخر بالماء من الصنابير الخاصة بالبلدية وتسكبها تباعا على أرضية وأحواض المراحيض، ثم تأخذ الفرشاة وتشرع في غسل وفرك الأرضية”، صارت أحلامها تتوسع وباتت ترغب في العودة إلى المدرسة للإمساك بناصية اللغة الهولندية. دخلت في مناوشات جديدة مع زوجها فتمكنت مرة أخرى من انتزاع موافقته، فقد كانت على بينة بأن تحقيق الأحلام والطموحات يتطلب سبلا مغايرة للتواصل.
الاستقلال أفقا
انفصلت رحمة لاحقا عن زوجها في الشغل، تقول إنه “طالما كانت تعمل مع زميلاتها النساء، فلم يكن يمانع ولو أنه لم يكن متحمسا لعملها خارج البيت”، وتفيد: “أما بالنسبة لي، ما كان يهمني هو العمل ولا لأي شيء يمكن أن أتخلى عنه”، وواصلت: “حينما كنت أشتغل مع زميلاتي النساء كانت مديرتنا ريتا، سيدة من النوع الذي يعرف كيف يحافظ على دفء العلاقات داخل فريقها، في حاجة لمن يعوضها خلال عطلتها”.
حظيت المغربية المهاجرة بثقة المديرة ريتا التي اختارتها لتتولى مهام الإدارة وقيادة المجموعة نيابة عنها (…) وصارت مسؤولة على مجموعة من ثماني عاملات نظافة كن يقمن بتنظيف مكاتب بلدية أمستردام، كانت هذه بداية الصعود الوظيفي والاقتراب أكثر من الحلم الذي بدا غير بعيد بعد مغادرة ريتا وتولي رحمة منصبها بشكل رسمي.
تقول الكاتبة في مذكراتها: “ترقيت في الشغل وصرت مسؤولة على مجموعة مستخدمين تضم 12 فردا يسهرون على تنظيف البناية الجديدة لمقر فرع البلدية في حي فاترخرافسميرWatergrafsmeer ، أذهب إليها بعد الزوال، أما في الصباح فكنت ما زلت أشتغل منظفة في إحدى المختبرات”.
حصلت على تكوينات خولت لها نيل دبلوم في مراقبة ومفتشة الجودة، تكتب أنها “اشتغلت بجدية منقطعة النظير لإنجاح مسارها المهني.
تسلقت السلم إلى أن وصلت إلى وظيفة مساعدة إدارية. صارت تقوم بالمهام نفسها التي كان يقوم بها رؤساؤها السابقون في العمل (…) فبدأ ضغط العمل يكبر باستمرار”. تسرد أيضا أنها باتت تكبر وتبكر حتى صارت بمثابة “ورقة سحرية” للشركة، تساعد في فك شفرات الأزمات وتهدئة الزبائن الحانقين.
“ماس”
حين اقتربت الشركة التي تشتغل بها من الإفلاس تطلبت الحاجة القيام بهيكلة جديدة للمؤسسة. وجدت المسلمة اسمها خارج “السبورة البيضاء”، فقدمت استقالتها. بعد وقت قصير أسست مقاولتها الخاصة بدعم من سيدة هولندية مدرسة تدعى إلس سلافيك، التي أجرت محادثات مع الزبائن تشعرهم بأن المودن تتطلع لتأسيس شركة متخصصة في قطاع النظافة، فأبدوا جميعا الأريحية للتعامل مع “الشركة الناشئة”.
تتساءل: “هل كنت سأدخل هذا الغمار بدون دعم إلس؟ يصعب الجواب، من يدري؟ فلو لم تكن إلس، لربما صادفت في طريقي شيئا آخر كان سيجعلني أفتح مقشدة مثلا، أو شركة سيارات أجرة، وربما لا شيء على الإطلاق”. هكذا، سارت الأمور في الاتجاه الذي كان عليها أن تسير فيه. ساندتها إلس وبفضلها تمكنت من تأسيس ماس (MAS) “الشركة متعددة الثقافات للتنظيف بأمستردام”.
تقول المؤلفة: “فور تأسيس ماس، كان لديها عرض بقيمة إجمالية تبلغ 150 ألف خولدة سنويا. انطلاقة رائعة وللقيام بالعمل على أحسن وجه كان يلزم سبعة مستخدمين”، وتضيف: “كنت محظوظة لأنني استقدمتهم من الشركة التي اشتغلت فيها سابقا. مستخدمون ممتازون يعرفون كل شيء في مجال التنظيف، وكان قد سبق لي أن علمتهم ودربتهم أنا شخصيا”.
أما التمويل الذي وفره البنك لرحمة من أجل تحفيز خلق المقاولة، فقد “كان كافيا لتغطية أجور المستخدمين لمدة ثلاثة أشهر، ولشراء كل أدوات ووسائل التنظيف كالمكانس، الدلاء، المناشف، السوائل وغيرها من المواد الضرورية لانطلاق العمل”.
وفق حكيها، فإن “ماس” تمكنت، في وقت قصير نسبيا، من الحصول على العديد من التعاقدات، فاقتحمت “بنايات المدارس، قاعات الرياضة ودور الأطفال، من لا شيء تمكنت الشركة، بعد عناء ومشقة، من النمو بسرعة ليكون لها مقر مستقل ومكانة خاصة في سوق المنافسة”، موردة: “استقطبنا زبائن كبارا جددا وتعاقدنا مع بلدية أمستردام، وساهمت الثقة التي وضعها الزبائن في الشركة في ضمان الاستمرارية وارتفاع جودة الخدمات”.
إحدى ضربات الحظ أن هذه الشركة فازت بصفقة خدمات تنظيف أحد أكبر المتاحف بهولندا. بعد عشر سنوات من الإصلاحات والترميمات، عاد متحف “رايكس” سنة 2013 لعرض كنوزه أمام أعين الزوار. وفي 2016، حصلت على عقد خدمات تنظيف برج أمستردام الذي كان قد خضع منذ سنين للترميم.
بالنسبة لرحمة، فإنه “في بناية متحف رايكس بأمستردام حققت ماس كل ما كانت تتمنى تحقيقه. لنذكر مثلا الزيارة الخاطفة للرئيس الأمريكي باراك أوباما سنة 2014، حفل توديع الملكة بياتريكس بمناسبة تخليها عن العرش سنة 2013. في مثل هذه المناسبات كان طاقم شركة ماس على استعداد تام للقيام بالمهام الموكولة لها بصدر رحب”.
تتويجات مختلفة
انطلاقا من حكايتها وإصرارها، أضحت رحمة “الجدة بطموحات كبيرة” تحتل منصب مديرة ومالكة شركة “ماس” للخدمات منذ تأسيسها حتى اليوم، وهي مديرة عامة ومالكة لشركة “ماس القابضة” منذ 2001 ومديرة شركة “ماس للصيانة والإدارة” منذ 2005، بالإضافة إلى كونها مديرة ومالكة لشركة “ماس للخدمات الأمنية” منذ 2010، ومديرة ومالكة لشركة “ماس لإدارة المنشآت” منذ السنة نفسها. ومنذ 2015 وهي مديرة “ماس لخدمات المقاهي والمطاعم”.
تواصلت مسيرة رحمة المودن بهذا الشكل واشتهرت في الخريطة الاقتصادية في بلاد الطواحين، إذ حازت سنة 1999 على جائزة المرأة الأوروبية السوداء (ذات أصل أجنبي)، ونالت وسام دابيد (Dabid) باسم محمد السادس ملك المغرب سنة 2000، كما حققت جائزة هوج فليخر (Hoogvlieger) في 2005، بالإضافة إلى جائزة آي (IJ) في السنة نفسها، ثم وسام من درجة فارس باسم محمد السادس ملك المغرب عام 2008، ناهيك عن وسام فارس العائلة الملكية أوراني ناصو (Oranje Nassau) باسم الملك فيلم ألكسندر.