في قلب التاريخ، حيث تمتزج الحجارة بروح الحضارة وتتنفس الأرض قصص الشعوب، يقف العراق شاهدًا على أمجاد بُنيت وكنوز نُهبت وحضارة تعرضت لأعتى العواصف، هنا، في أرض الرافدين، لا تُعدّ القطع الأثرية مجرد حجارة منحوتة أو تماثيل صامتة، بل هي شهادات حية على أمجاد بابل وأور وآشور، وحكايات الإنسان الذي ابتدأ أول حرف وأول قانون.
لكن هذا الإرث لم يسلم من الأطماع، فقد عصفت به أزمنة النهب والدمار، تاركةً وراءها فجوة عميقة في ذاكرة الأمة، فمنذ مطلع القرن الحادي والعشرين، تحول العراق إلى مسرح لجرائم ضد الثقافة والتاريخ، حيث نُهبت آلاف القطع الأثرية، ودُمّرت صروح حضارية على مرأى العالم، في مشهد يُعادله الألم والذهول.
رغم المحاولات جذوة الحضارة لم تنطفئ، فقد أطلق العراق حملة إحياء شاملة لآثاره المهددة، استعادةً لما سُلب ووفاءً لروح أجداده، فمنذ عام 2003، أطلقت السلطات العراقية، بالتعاون مع المجتمع الدولي، حملة واسعة لإحياء المتحف الوطني العراقي واستعادة إرثه المسلوب، حيث أعيدت 4،300 قطعة من أصل 15،000 قطعة أثرية نُهبت خلال تلك الفترة، وفقًا لتقارير المتحف الوطني العراقي، ورغم الجهود المستمرة، لا تزال أكثر من 70% من القطع مفقودة، مما يعكس حجم التحدي في استعادة هذا التراث.
عمليات نهب منذ 2003
في الموصل، عاش متحفها لحظات عصيبة خلال عام 2003، حيث تعرّض للنهب، لكن الحظ حالف العديد من القطع التي تم نقلها إلى بغداد قبل أيام من الكارثة، بقي المتحف مغلقًا ويشهد أعمال تجديد حتى جاء يونيو 2014، حين استولى المتطرفون عليه، في فصل جديد من استهداف الثقافة والحضارة.
وفي 26 فبراير 2015، صُدم العالم بمقطع فيديو يظهر تدمير مسلحين للقطع الأثرية في متحف الموصل، زاعمين أنها "أصنام" تتعارض مع أيديولوجيتهم، وهو ما أثار استنكارًا دوليًا واسعًا، وردًا على هذا الاعتداء الثقافي، أعادت الحكومة العراقية افتتاح المتحف الوطني في بغداد رسميًا بعد أيام قليلة، في 28 فبراير 2015، كرسالة تحدٍّ ضد محاولات طمس التاريخ.
لم تتوقف الجهود عند هذا الحد، ففي 26 مارس 2015، تم افتتاح متحف الناصرية، ليكون خطوة جديدة نحو إحياء الروح الثقافية للبلاد،كما تعمل الحكومة على إعادة فتح متاحف أخرى لتعزيز الارتباط بالتراث الوطني.
في إقليم كردستان العراق، واصلت المتاحف الأثرية مثل تلك الموجودة في أربيل والسليمانية ودهوك استقبال الزوار، محافظةً على دورها كبوابات تروي حكايات التاريخ وتحمي هويته من الاندثار.
غالب إبراهيم الكعبي: مواقع بابل ونينوى دُمّرت ونهبت بشكل ممنهج
أكد الباحث الموسوعي د. غالب إبراهيم الكعبي انه منذ أواخر القرن التاسع عشر، تعاني الآثار العراقية من النهب، لا سيما خلال الفوضى التي أعقبت حرب 2003، حيث اختفت حوالي 15 ألف قطعة أثرية، رغم استرداد معظمها، إلا أن المواقع الأثرية ظلت عرضة للنهب، ما يعكس ضعف الحماية والإدارة".
وحول المخاطر على التراث الثقافي يقول الكعبي: "التراث الثقافي يواجه تهديدات كارثية كالحروب والكوارث الطبيعية، وأخرى تدريجية كالتدهور والإهمال، العولمة تفرض تحديات كبرى على التراث غير المادي، مع غياب استراتيجيات وطنية وقوانين فاعلة للحفاظ عليه".
يتابع رئيس المجلس المركزي للتراث والثقافة والفنون متحدثًا عن الحماية خلال النزاعات المسلحة: "اتفاقية لاهاي 1954 تكرّس حماية خاصة للتراث الثقافي، مع منع استهدافه أو استخدامه عسكريًا، ومع ذلك، تكشف الحروب عن ضعف الالتزام الدولي بهذه الاتفاقيات، ما يؤدي إلى دمار لا يُعوض".
يستكمل الكعبي: "نهب العراق طال مواقع بارزة مثل بابل ونينوى ونمرود، وأُتلفت آثارها بشكل ممنهج، بينما تُعد مواقع مثل إيسن وكالح ونفر مثالًا واضحًا على استغلال اللصوص لغياب الحراسة والاستراتيجيات الوقائية".
ويختتم الكعبي حديثه: "رغم جهود اليونسكو وتدخل خبراء عالميين، ظل النهب مستمرًا حتى بعد تشكيل قوة حماية عراقية، هذا يعكس الحاجة الملحة لتعاون دولي فعّال واستراتيجية شاملة لإنقاذ التراث العراقي".
وهكذا، يبقى التراث العراقي شاهدًا حيًا على عظمة الماضي وصموده أمام محن الحاضر، يحمل بين طياته رسائل أجيال مضت وأحلام أجيال قادمة، إن الجهود المبذولة لاستعادة هذا الإرث وإحيائه ليست مجرد صيانة لحجارة أو قطع أثرية، بل هي معركة لاستعادة هوية وطن وثقافة إنسانية تتحدى النسيان، وبينما يواصل العراق نضاله من أجل حماية كنوزه، يظل العالم مدعوًا للوقوف إلى جانبه، لأن الحفاظ على تراث الرافدين هو حفاظ على ذاكرة الإنسانية بأسرها.
الخبير الأمني علاء النشوع: القوات الأمريكية وراء تهريب الأرشيف اليهودي العراقي إلى تل أبيب
وتعليقًا على ما واجهته الآثار العراقية من نهب وضربات عبر تنظيم داعش، كشف الخبير الأمني والاستراتيجي العراقي، علاء النشوع، أن تنظيم داعش شكّل أحد أخطر التهديدات التي واجهت التراث الثقافي العراقي، حيث اعتمد على أيديولوجية متطرفة وأفعال وحشية لتدمير المواقع الأثرية تحت ذريعة "الشرك"، وأوضح أن التنظيم لم يقتصر على التخريب، بل انخرط في عمليات نهب ممنهج للآثار وبيعها في السوق السوداء، محققًا عوائد سنوية تتجاوز 80 مليون جنيه إسترليني.
وأشار النشوع في تصريحات لـ "البوابة " إلى أن داعش استفاد من الفوضى العارمة التي أحدثتها السياسات الأمريكية في العراق، والتي وفرت بيئة خصبة لنشوء التطرف وتهيئة الظروف لظهور التنظيم، مما مكنه من توجيه هجماته نحو التراث العراقي.
وأضاف النشوع أن عمليات النهب لم تبدأ مع ظهور داعش فقط، بل تعود جذورها إلى الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، عندما أصبحت المتاحف والمواقع الأثرية فريسة لعمليات نهب وسرقة منظمة في ظل غياب الحماية الأمنية، ووصلت القطع الأثرية المهربة إلى عدة دول حول العالم، ما يعكس حجم الكارثة التي أصابت التراث الحضاري للبلاد.
وأكد أن التنظيم نفذ عمليات تخريب ممنهجة استهدفت مواقع أثرية بارزة في مدينتي تكريت والموصل، شملت مواقع مثل "الأربعين"، و"القلعة" في تكريت، و"المسبحلي"، و"تل عتيبة"، و"تل جويش" (التي كانت تعرف بمدينة أوياش الآشورية)، بالإضافة إلى تدمير أنفاق جامع النبي يونس ومواقع أثرية في كركوك، وأضاف أن هناك عصابات منظمة، تعمل بالتنسيق مع داعش، لا تزال مستمرة في تدمير ونهب هذه المواقع بدعم خارجي واضح.
وحمل النشوع الحكومة العراقية مسئولية كبيرة لفشلها في وضع استراتيجيات فعالة لحماية التراث الثقافي للبلاد، وأوضح أن نقص خطط الصيانة وغياب الكفاءات المتخصصة في الدوائر المعنية ساهم في تفاقم الأوضاع، كما أن العمليات العسكرية للقضاء على داعش أدت إلى تدمير مواقع أثرية تاريخية تعود للعصور العباسية، مثل "القبة الصلبية"، و"قصر العاشق" في صلاح الدين، و"المنارة الحدباء"، و"الجامع النوري" في نينوى، التي تعد معالم بارزة في الحضارة الإسلامية.
الغزو الأمريكي كلمة السر
وفيما يتعلق بدور الولايات المتحدة، أوضح النشوع أن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 كان السبب الرئيسي في تدمير ونهب التراث العراقي، وأشار إلى أن القوات الأمريكية ركزت على حماية الوزارات الحكومية، متجاهلة تأمين المتاحف والمواقع الأثرية، ما جعلها عرضة لعمليات النهب، ولفت إلى تصريحات عالم آثار عراقي بارز، أشار فيها إلى أن علماء آثار غربيين كانوا على استعداد لتنفيذ مخططات دقيقة لسرقة الآثار فور سقوط بغداد، مما يعكس وجود تخطيط مسبق لنهب التراث العراقي.
وأضاف أن القوات الأمريكية لم تكتفِ بالإهمال، بل حولت بعض المواقع الأثرية إلى قواعد عسكرية، ما تسبب في تدمير معالم تاريخية تعود إلى عصور البابليين، كما تعرض الأرشيف اليهودي العراقي للتهريب إلى تل أبيب عبر وسطاء محليين، مقابل مبالغ مالية ضخمة، ما يعكس حجم الضرر الذي ألحقه الاحتلال بالإرث الثقافي للبلاد.
انتهاكات القانون الدولي
وشدد النشوع على أن الولايات المتحدة، بصفتها دولة احتلال، تتحمل مسئولية مباشرة عن تدمير ونهب الآثار العراقية بموجب القانون الدولي، وأشار إلى أن هذه الأفعال تخالف مواثيق اليونسكو وقرارات مجلس الأمن، ومنها القرار 1483 الصادر في مايو 2003، والقرار 2199 الصادر في فبراير 2015، الذي يلزم الدول بمنع الاتجار بالآثار العراقية وحمايتها.
وفيما يتعلق بالمطالبة بتعويضات، أكد النشوع أن الحكومة العراقية تواجه تحديات كبيرة بسبب انتشار الفساد السياسي والإداري، مما يضعف موقفها أمام المحاكم الدولية، لكنه أشار إلى أهمية متابعة القضية دوليًا لضمان محاسبة الأطراف المتورطة، معربًا عن أمله في أن يحمل المستقبل فرصة لاستعادة الحقوق وحماية التراث العراقي.
الباحث العراقي أحمد الخضر: الولايات المتحدة شريكة في نهب تراث العراق.. والضغوط مستمرة لاستعادته
أوضح الباحث السياسي العراقي أحمد الخضر لـ "البوابة " أن التراث الثقافي العراقي الذي استهدفته ممارسات تنظيم داعش الإرهابي خلال فترة سيطرته على أجزاء واسعة من العراق بدأ يستعيد عافيته بفضل جهود عراقية ودعم دولي مكثف، وأشار إلى أن التنظيم، رغم نجاحه في تدمير العديد من المتاحف والمواقع الأثرية، لم يتمكن من محو الهوية الثقافية المتأصلة في وجدان العراقيين.
وأوضح الخضر أن تنظيم داعش لم يكتفِ بتدمير المواقع الأثرية فحسب، بل عمل على سرقة وتهريب آلاف القطع الأثرية النادرة إلى الخارج، ومع ذلك، أكد أن العراق حقق إنجازًا كبيرًا في تعقب واسترداد جزء كبير من هذه الكنوز، حيث تم استعادة أكثر من 34 ألف قطعة أثرية نادرة خلال السنوات الخمس الماضية، بفضل التعاون بين الحكومة العراقية ووزارات الخارجية والثقافة والسياحة والآثار.
وأضاف الخضر أن الجهود لإعادة الحياة إلى التراث الثقافي المدمّر ما زالت مستمرة، مشيدًا بالدور الكبير الذي لعبته الحكومة العراقية بالتعاون مع جهات دولية مختصة لترميم المواقع الأثرية التي تعرضت للتخريب، وأوضح أن فرقًا دولية تعمل بشكل دوري داخل العراق بالتنسيق مع وزارة الثقافة والسياحة والآثار لإحياء هذا التراث.
وأشار الخضر إلى أن القوات العراقية واجهت تحديات كبيرة أثناء حربها مع تنظيم داعش، حيث خاضت معارك شرسة في مناطق تحتوي على مواقع أثرية مهمة، لكن رغم ذلك، تم اتخاذ إجراءات صارمة لتجنب إلحاق الضرر بهذه المواقع، مما يعكس حرص الحكومة العراقية على حماية تراثها حتى في أصعب الظروف.
كما تحدث الخضر عن الدور السلبي الذي لعبته القوات الأمريكية خلال فترة الاحتلال، حيث سُرقت العديد من القطع الأثرية النادرة، لكنه أكد أن الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2008 بذلت جهودًا كبيرة لاستعادة هذه القطع، ونجحت العراق في استرداد ما يزيد علي 80% من الآثار المسروقة، مع استمرار هذه الجهود كجزء من أولويات الحكومة العراقية الحالية.
واختتم الخضر حديثه بالتأكيد على أن التراث الثقافي العراقي، رغم كل محاولات التخريب والسرقة، يظل متجذرًا في نفوس العراقيين، وقال: "العراق تجاوز مرحلة داعش بنجاح، والجهود الحالية لإعادة إحياء التراث تثبت أن الهوية الثقافية للعراق أقوى من أي تهديد".
أسعد الزلزلي: التنظيم الإرهابي دمر المقدسات الدينية بلا رحمة
أسعد الزلزلي، الصحفي الاستقصائي البالغ من العمر 40 عامًا، والذي ينتمي لمدينة بغداد، يروي بأسى مأساة فقدان تراث أمة امتدت حضارتها لآلاف السنين، قائلًا: يُعَدّ نهب الآثار العراقية من أكبر الكوارث الثقافية التي شهدها العالم، وخاصة بعد عام 2003 عندما فتحت أبواب المتاحف العراقية أمام عمليات النهب الممنهج، وتحولت المواقع التراثية إلى ضحية للتدمير والسرقة.
يقول الزلزلي في تصريحات لـ "البوابة ": "بعد الغزو الأمريكي للعراق، أصبحت الحضارة العراقية هدفًا مباشرًا"، مشيرًا إلى أن الكثير من القطع الأثرية تم نهبها من متاحف وقصور رئاسية، وكان البنك المركزي العراقي مستودعًا أساسيًا لكثير من الكنوز الأثرية التي تعود إلى آلاف السنين، لكنه لم يسلم من الدمار والسرقة المنظمة.
ويتحدث الزلزلي عن فترة ظهور تنظيم داعش الإرهابي، التي وصفها بأنها فصل مظلم جديد من استهداف التراث العراقي، حيث تعرضت مواقع أثرية مثل جامع النبي موسى والمئذنة الحدباء في الموصل للتدمير الوحشي، ويضيف: "حتى الكنائس القديمة لم تسلم من النهب أو السيطرة عليها".
ورغم جهود متواضعة لاستعادة الآثار المسروقة، إلا أن النتائج غير كافية، "ما يقارب 3000 موقع أثري في العراق تعرّض للاستيلاء أو الإهمال، بينما نجد الآثار العراقية اليوم تُباع في الأسواق العالمية بكل علنية"، يوضح الزلزلي، منتقدًا ضعف التحرك الحكومي لاستعادة هذه الكنوز.
يستكمل الزلزولي: لكنه يشير إلى وعي جديد يظهر بين الشباب العراقي اليوم، واصفًا الجيل الحالي بأنه أكثر اهتمامًا بالمحافظة على التراث الثقافي من أجيال سبقت، "أنا ولدت في مدينة بابل التاريخية، كان لدينا ارتباط فطري بالمواقع الأثرية، لكنني كنت شاهدًا أيضًا على تشويه هذه المعالم عندما وضع النظام السابق طوبًا يحمل حروف اسمه على جدران المدينة الأثرية".
يتابع الصحفي الاستقصائي: ورغم كل ما حدث، يظل الأمل قائمًا في إحياء الهوية الثقافية للعراق، خاصة مع بروز محاولات مجتمعية للنهوض بالمواقع التراثية، لكن الزلزلي يؤكد أن استعادة الآثار المنهوبة تحتاج إلى تحرك دولي ومحلي أكثر جدية، بعيدًا عن الإجراءات المحدودة الحالية.
"الحضارة العراقية ليست مجرد تاريخ، إنها هوية شعب وأمة"، يختم الزلزلي حديثه، داعيًا إلى وقفة عالمية جادة لإنقاذ ما تبقى من إرث العراق الحضاري.
حيدر الموسوى: تراث العراق يُباد على مرأى ومسمع العالم.. أين الضمير الإنساني
قال حيدر الموسوي، الشاب البالغ من العمر 24 عامًا من محافظة الديوانية (أرض حضارة نيبور ونفر)، في تصريحات خاصة لـ "البوابة " ما يعانيه العراق من ضياعٍ مستمر لتراثه الحضاري العريق.
يضيف الموسوي: "أشعر أن جزءًا كبيرًا من تاريخ العراق قد ضاع وعشرات الآلاف من القطع الأثرية والمواقع الثقافية تم تدميرها أو نهبها على مرّ السنين، الأسوأ من ذلك أنني لا أرى أي جهود جادة لاستعادتها أو على الأقل تسويقها ثقافيًا للشعب العراقي، يبدو أن تراثنا سيصبح مجرد أسطورة مع مرور الزمن، في ظل الإهمال الحكومي المستمر".
الموسوي يستذكر بعض المواقع التي كان لها أهمية خاصة بالنسبة له وشهدت سرقة وتدميرًا: "آثار بابل، الحضر، وكالح، وآثار الموصل. لكن آثار بابل لها مكانة خاصة في قلبي؛ هي تاريخ أصولنا، وعلى الرغم من وجود بعضها، فإن الكنز الحقيقي قد تم نهبه وسرقته من قبل عصابات التهريب بالتواطؤ مع جهات غير نزيهة".
بالنسبة للموسوي، لا تُعتبر الجهود المبذولة لاستعادة القطع الأثرية المسروقة كافية. "آلاف القطع موجودة الآن بشكل علني في متاحف دولية، لكنها لم تُسترد حتى الآن. هذا التراث مكانه المتاحف الوطنية العراقية، وليس خزائن الدول الأجنبية. يجب أن تكون هناك خطوات واضحة وجادة من الحكومة والمجتمع الدولي لاستعادتها".
يستكمل الموسوي: "المجتمع العراقي، نتيجة للحروب والأزمات، لا يهتم بالتراث الثقافي بالمستوى المطلوب، وهناك محاولات فردية أو مجتمعية للحفاظ على ما تبقى، لكنها ليست كافية، الحكومة، من جانبها، لم تُطلق برامج توعية أو حملات لتعريف الأجيال الجديدة بحضارتنا، مما يجعل هذه الأجيال عرضة لجهل تراثها والاندماج بثقافات مستوردة قد تؤدي إلى طمس الهوية".
يتابع الموسوي متفائلًا: "رغم ذلك، لاحظت اهتمامًا متزايدًا بين الشباب في المناطق التاريخية، الجيل الجديد، بفضل الانفتاح على العالم الرقمي، يبدو أكثر وعيًا بقيمة التراث مقارنة بأجيال التسعينات والألفينات، لكن هذا لا يكفي، إذ يجب أن تكون هناك حركة تعليمية وإعلامية متكاملة تعزز فهمهم لتراثهم".
ويختتم المواطن العراقي: في ظل هذا الواقع الصعب، يُختتم حديث الموسوي بدعوة صريحة للحكومة العراقية والمجتمع الدولي للوقوف بشكل حقيقي من أجل استعادة الهوية الثقافية للعراق، لأن التراث ليس مجرد تاريخ، بل هو جوهر الأمة.
اللواء محمد شنشل لـ"البوابة": نواجه مؤامرة لطمس هوية العراق
اللواء محمد شنشل، مدير مكتب الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، كشف في حديثه لصحيفة البوابة، أن ما تعرض له العراق من نهب وتدمير لآثاره ليس سوى جزء من مخطط شامل يستهدف طمس الهوية التاريخية والحضارية للعراق، وأوضح أن هذا الاستهداف بدأ منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حيث تم التمهيد لسرقة الموروث الثقافي والإنساني من خلال تدمير المؤسسات الثقافية ونهب الآثار التي تعود لآلاف السنين.
وأشار اللواء شنشل إلى أن القوات الأمريكية نفّذت خططًا دقيقة للسيطرة على مفاصل الدولة العراقية، بما في ذلك المواقع التي تضم كنوزًا تاريخية مثل البنك المركزي والمتحف العراقي، وأوضح أن المخازن التي كانت تحتوي على آثار نفيسة داخل البنك المركزي تعرضت لنهب ممنهج، شمل مصوغات ذهبية وأعمالًا أثرية تعود لأكثر من 5000 عام.
وأضاف أن القصور الرئاسية، التي كانت تحوي هي الأخرى قطعًا أثرية فريدة، لم تسلم من السرقة، حيث هُربت معظم هذه الكنوز إلى الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى، وأكد أن الولايات المتحدة استحوذت على النصيب الأكبر من هذه الآثار، بينما حالَت المقاومة الشعبية دون وصول القوات الأمريكية إلى بعض المواقع الأثرية، مما منع طمس الهوية العراقية بالكامل.
تسليم العراق لإيران
وأكد شنشل أن الاحتلال الأمريكي سلم العراق لإيران على "طبق من ذهب"، مشددًا على أن هذا التسليم لم يكن عشوائيًا بل جاء ضمن خطة محكمة لإضعاف العراق، وأضاف: "إيران وأمريكا تعاونتا بشكل مباشر لخلق تنظيم داعش، الذي كان أداة صهيونية-إيرانية هدفها تدمير ما تبقى من الحضارة العراقية تحت ذريعة محاربة الأصنام".
وفيما يتعلق بمحاولات استعادة الآثار المنهوبة، كشف شنشل أن العراق لم ينجح حتى الآن سوى في استرجاع 2% من القطع الأثرية المسروقة.
صمود الهوية الوطنية
رغم التحديات الجسيمة، شدد اللواء شنشل على أن الهوية الوطنية والقومية للعراق ستبقى عصية على الطمس، بفضل وجود "أصلاء شرفاء" يرفضون الاستسلام لهذه المؤامرات، واختتم حديثه قائلًا: "لن يسمح العراقيون الشرفاء بطمس هويتهم الإسلامية والحضارية مهما تكالبت عليهم المؤامرات".
تحديات تواجه حماية التراث الثقافى.. التنظيمات الإرهابية تعرقل جهود الحفاظ على ماتبقى من آثار.. ومعهد تريندز للبحوث: صعوبة تنفيذ الاتفاقيات الدولية في ظل الصراعات
سلط معهد "تريندز للبحوث والاستشارات" الضوء على التحديات التي تواجه حماية التراث الثقافي في العراق، وذلك عبر دراسة أجراها المعهد، والتي كشفت أنه يمثل رموزًا للهوية والتاريخ والاستمرارية الحضارية، وليس مجرد بقايا من الماضي، توضح أن الحروب والإرهاب، خاصة أفعال داعش، دمرت جزءًا كبيرًا من هذا التراث، مع تهديد مستمر لمواقع مثل الحضر وآشور وسامراء.
تشيد الدراسة بجهود الحكومة العراقية والمنظمات الدولية، مثل اليونسكو وASOR، في توثيق الأضرار ومحاولة حماية المواقع، لكنها تشير إلى صعوبة تنفيذ الاتفاقيات الدولية في ظل الصراعات.
الدراسة أوصت بنشر قوات سلام لحماية المواقع، تعزيز التعاون بين الجهات المحلية والدولية، وإشراك المجتمع من خلال خطط سياحية مستدامة، كما خلُصت إلى أن حماية التراث تحتاج إلى نهج عالمي موحد لأنه يمثل إرثًا للبشرية جمعاء.
ومؤخرًا كانت الممثلية الدائمة لجمهورية العراق لدى مكتب الأمم المتحدة في جنيف، نظّمت فعالية مميزة في سبتمبر الماضي بقصر الأمم، تحت عنوان "التراث الثقافي الرقمي: الفرص والتحديات في ضوء الحقوق الثقافية"، وذلك على هامش الدورة الـ 57 لمجلس حقوق الإنسان الأخيرة والتي انتهت في أكتوبر 2024، جاء هذا الحدث بالتعاون مع ممثلية قبرص في جنيف، والمقررة الخاصة للحقوق الثقافية ألكسندرا زانثاكي، ومؤسسة ALIPH.
في كلمته، شدّد السفير عبد الكريم هاشم مصطفى، الممثل الدائم للعراق، على أهمية التراث الثقافي الرقمي، لا سيما للعراق كونه مهد الحضارات، وأبرز مشروع التوثيق الرقمي لمدن التراث العالمي بالتعاون مع اليونسكو، الذي يعد إنجازًا رائدًا في تاريخ العراق الأثري، كما عبّر عن تطلعات العراق لنيل دعم المجتمع الدولي لترشحه لعضوية لجنة التراث العالمي للفترة 2025-2029، إلى جانب دعوته لاستمرار الدعم في جهود استعادة الآثار العراقية المسلوبة.
وشارك في الحدث نخبة من الشخصيات، من بينهم المقررة الخاصة للحقوق الثقافية ألكسندرا زانثاكي، والسيد باستيان فاروتيسكوس، مدير الاستراتيجية في ALIPH، بالإضافة إلى ممثلين عن اليونسكو وعدد من الدول، ناقش المشاركون في مداخلاتهم أهمية التراث الثقافي الرقمي كأداة تربط الأجيال القادمة بتراث الشعوب وثقافاتها، مؤكدين دوره كمحور أساسي في تعزيز الحقوق الثقافية للإنسان.
تقارير أممية: داعش تبنّت استراتيجية ممنهجة لتدمير المعالم الثقافية والدينية بالعراق
أفاد تقرير صادر عن فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة (يونيتاد) بأن تنظيم داعش الإرهابي ألحق أضرارًا جسيمة بمواقع التراث الثقافي في العراق، مستهدفًا جميع المجتمعات العراقية دون استثناء، وأكد التقرير، الذي تستعرضه صحيفة "البوابة"، أن التنظيم تبنّى استراتيجية ممنهجة لتدمير المعالم الثقافية والدينية التي لا تتماشى مع تفسيره المتطرف للإسلام.
ووفقًا للتقرير، خلال الفترة الممتدة بين يونيو 2014 وأغسطس 2017، دمّر التنظيم الإرهابي ما لا يقل عن عشرات المساجد والحسينيات والأضرحة الإسلامية بشقيها الشيعي والسني، بالإضافة إلى استهداف الأضرحة والمعابد الإيزيدية، والأديرة والكنائس المسيحية، وقاعات الطقوس الدينية، كما امتدت اعتداءاته لتشمل المقابر في مختلف أنحاء شمال العراق، في محاولة لطمس الهوية الثقافية والدينية لهذه المجتمعات.
وأشار التقرير الأممي إلى أن هذه الممارسات لا تقتصر على كونها أعمال تدمير عشوائية، بل ترقى إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وأضاف أن فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة لديه "أسباب معقولة" للاعتقاد بأن هذه الانتهاكات الجسيمة تستدعي محاسبة دولية شاملة للتنظيم وممارساته الوحشية.
ويبرز هذا التقرير حجم التحديات التي تواجه العراق والمجتمع الدولي في إعادة إعمار التراث الثقافي الذي يُعد جزءًا أصيلًا من الهوية الإنسانية.
مدير عام اليونسكو: فتح المدارس والجامعات وإحياء الحياة الثقافية والفكرية
قدمت أودري أزولاي، مدير عام اليونسكو، اقتراحًا خلال المؤتمر الدولي لإعادة إعمار العراق، الذي عُقد بعد مرور عام على إزالة أعلام تنظيم داعش من سماء الموصل، باتخاذ اليونسكو مبادرة طموحة لمساعدة المدينة على النهوض من الرماد والمساهمة في «إحياء روح الموصل».
ومنذ عام 2018، واصل المنظمة تنفيذ هذا المشروع الطموح بدعم من جميع الشركاء، فلا يقتصر هذا المشروع على إعادة بناء المدينة وترميم تراثها التاريخي فقط، بل يشمل أيضًا إعادة فتح المدارس والجامعات وإحياء الحياة الثقافية والفكرية في مدينة الموصل، التي تُعد عاصمة ثقافية عريقة.
وتضيف، فى مقال لها، لم يكن من الممكن لمدينة الموصل، التي دمرها العنف والاحتلال، إلا أن تسترجع ملامحها العامة ومعالمها الأثرية، وقد بدأت اليونسكو في تنفيذ الأعمال التحضيرية المعقدة والمهمة لهذا المشروع، التي أسفرت عن اكتشاف كنز أثري يتمثل في عدة قاعات صلاة تعود للقرن الثاني عشر تحت مبنى جامع النوري.
كما بدأت اليونسكو عملية إعادة بناء المواقع الرمزية مثل المنارة الحدباء، وكنيسة سيدة الساعة، وكنيسة الطاهرة، وأعمال إعادة بناء جامع النوري.
وأكدت أودري أزولاي أن إعادة بناء هذه المعالم الأثرية والمباني تعني إحياء روح المدينة نفسها وتمكين سكانها من استعادة تاريخهم العريق، الذي يتميز بالتنوع الثقافي والديني.
ومع عودة الروح إلى الموصل، فإن منظمة اليونسكو نحيي أيضًا روح الحوار والنقاش التي تميز هذه المدينة التي تقع عند ملتقى طرق الحضارات، م ضملان أن ترتقي المدينة مجددًا إلى مستوى اسمها، حيث إن كلمة "الموصل" بالعربية تدل على الصلة، ونقطة التقاطع، والجسر.
وتعرضت مدينة الموصل القديمة لتدمير بنسبة 80% خلال احتلال تنظيم «داعش» الإرهابي لها، وأُطلقت اليونسكو مبادرة «إحياء روح الموصل» في عام 2018.
وتمكنت اليونسكو، بدعم شركائها، من تعبئة أكثر من 105.5 مليون دولار أمريكي لصالح مبادرة «إحياء روح الموصل».
وخلال العمل، عُثر على 20 عبوة ناسفة تحت قبة جامع النوري، منها قنبلة واحدة غير منفجرة، وأُزيل 9940 طنًا من الردم من المواقع الرئيسية الأربعة، وهى كنيسة الساعة وجامع النوري والمنارة الحدباء وكنيسة الطاهرة.
كما استُخرجت 7218 شظية أثرية من المواقع الأربعة الرئيسية، و45000 قطعة أصلية من الآجر من جامع النوري، وفُهرست لإعادة بناء المنارة الحدباء، وأعادت اليونسكو تأهيل 124 منزلًا سكنيًا تراثيًا في مدينة الموصل القديمة.