في ختام الفعاليات الثقافية والفنية للدورة الحالية من معرض القاهرة الدولي للكتاب الـ56، وبقاعة الصالون الثقافي، تم الاحتفاء بسلسلة “أرواح في المدينة” للكاتب الصحفي محمود التميمي، وكانت الليلة مخصصة للاحتفاء بـ “البحث عن أم كلثوم”، وجاء هذا الحدث متزامنًا مع الذكرى الخمسين لرحيل أم كلثوم، حيث وافق موعده يوم 5 فبراير 1975، يوم تشييع جنازتها.
لطالما كان الفن في مصر أكثر من مجرد وسيلة للترفيه، بل أداة فعالة للتأثير والتعبير عن هموم الوطن وآماله. ولم تكن هناك أيقونة أكثر حضورًا في هذا السياق من كوكب الشرق، أم كلثوم، التي سخّرت فنها لخدمة القضايا الوطنية، خاصة خلال فترات الحرب. فمنذ اندلاع ثورة 23 يوليو 1952 وحتى نصر أكتوبر 1973، كانت أم كلثوم صوتًا يعبر عن قوة الإرادة المصرية ورافدًا أساسيًا لدعم المجهود الحربي. كانت قد أعدت أغنية للاحتفال بالنصر، لكنها رحلت قبل تسجيلها. وخلال حياتها، جابت العالم العربي والعواصم الغربية لجمع التبرعات لصالح الجيش المصري، وقدمت أعمالًا غنائية خلدت روح النضال والمقاومة.
أم كلثوم ودعمها للوطن
عقب نكسة يونيو 1967، شعرت أم كلثوم، كغيرها من المصريين، بوطأة الهزيمة، لكنها لم تستسلم للحزن، بل اتخذت موقفًا عمليًا. نظمت سلسلة حفلات في مختلف الدول، من المغرب وتونس إلى فرنسا والكويت، وتبرعت بإيراداتها بالكامل لدعم الجيش المصري. لم تكن هذه الحفلات مجرد عروض غنائية، بل كانت رسائل قوية تعكس تضامن الأمة العربية مع مصر، وإيمانها بقدرتها على تجاوز المحنة.
هذا الثراء العظيم لشخصية أم كلثوم دفع الكاتب الصحفي محمود التميمي إلى جعلها واحدة من “الأرواح الخالدة” في رحلته، وهو ما انعكس في سلسلة “أرواح في المدينة”. وقد تم عرض فيلم بمناسبة الاحتفال بذكرى أم كلثوم في بداية العام بدار الأوبرا المصرية، وحقق نجاحًا كبيرًا، مما أدى إلى إعادة عرضه في عدة أماكن، مثل مسرح سيد درويش بالإسكندرية وأوبرا دمنهور. كما قامت وزارة الثقافة بترشيح العمل لتمثيل أيام مصر الثقافية في قطر، حيث عُرض على مسرح درب الساعي بالدوحة في 30 يناير الماضي.
رؤية محمود التميمي للمشروع
قال الكاتب الصحفي محمود التميمي إن سلسلة أمسيات “أرواح في المدينة” تستلهم الأرواح الجميلة والجليلة التي استقرت في فضاء القاهرة، مشيرًا إلى أن المشروع بالكامل يحمل اسم “القاهرة عنواني”. وأكد فخره بمصر وعاصمتها، وأضاف: “كل سنة ننظم ليلة خاصة بأم كلثوم، وهذا هو العام الثالث على التوالي الذي ننظم فيه أمسية لها”.
وأوضح التميمي أن ما دفعه لهذه الفكرة هو الحنين إلى الماضي الجميل لهذه العاصمة، والبحث عن الأرواح النبيلة التي عاشت واستقرت فيها، مشيرًا إلى أن أم كلثوم كانت واحدة من أعظم هذه الأرواح وأكثرها تأثيرًا. وقال: “الاحتفاء بمرور 50 عامًا على رحيل أم كلثوم ليس احتفالًا بغيابها، فهذا الأمر لا يدعو للاحتفال، وإنما هو احتفاء باستمرارها واستقرارها وتفوقها حتى اليوم، رغم رحيلها”.
اعتمد التميمي في عرض مشروعه “أرواح في المدينة” على أسلوب شيق، حيث قدم فيلمًا نادرًا لحفل لأم كلثوم في طنطا بتاريخ 8 مايو 1968، قام بتصويره المخرج يوسف شاهين، ولم يظهر هذا التسجيل إلا في فيلمه “حدوتة مصرية”. وكان هذا الحفل مميزًا، حيث غنّت فيه أم كلثوم “ألف ليلة وليلة”، وقدمه بصوته المذيع جلال معوض. كما كشف الفيلم أن إيرادات الحفل، والتي بلغت 268 ألف جنيه، تم تخصيصها لإعادة بناء مدن القناة، وتم تكريم أم كلثوم بإهدائها “مصحفًا”.
أوضح التميمي أن إخراج هذا الحفل كان مختلفًا تمامًا، وذلك بفضل رؤية يوسف شاهين. فقد سمعت أم كلثوم عن شاهين بعد حصوله على وسام التفوق من الرئيس جمال عبد الناصر، وقررت التعاون معه لتصوير أغنيتها “طوف وشوف”. لكن شاهين طلب منها أن يصور شيئًا عن حياتها، فوافقت ومنحته تصريحًا مفتوحًا لتصوير كل حفلاتها.
جمهور أم كلثوم والذكريات
استعرضت الأمسية أيضًا القصة الحقيقية لأشهر معجبي أم كلثوم، حافظ الطحان، الذي اشتهر بجملته الشهيرة: “عظمة على عظمة يا ست”. ولم يفوّت الطحان أي حفل لأم كلثوم منذ عام 1935، أي منذ بداية بث حفلاتها الشهرية عبر الإذاعة، التي كانت قد افتتحت رسميًا عام 1934 بأول حفل لأم كلثوم. وظل الطحان يحضر حفلاتها حتى آخر حفل لها عام 1974. واستند التميمي في عرضه لهذه القصة إلى حوار أجراه الطحان مع مجلة الكواكب عام 1963. كما تحدث عن معجب آخر كان يعشق أم كلثوم، وهو فؤاد الأطرش، شقيق فريد الأطرش وأسمهان. وتطرق إلى الجمال الفريد الذي كانت تُبرزه عدسات المصورين في حفلات أم كلثوم، حيث التقطوا صورًا لا تُنسى لجمهورها المتفاعل معها.
أم كلثوم.. صوت النضال
لم تقتصر أم كلثوم على الغناء العاطفي، بل كان لأغانيها الوطنية دورٌ بارز في شحذ الهمم وبث الأمل. فقدمت أعمالًا خالدة مثل “أصبح عندي الآن بندقية”، “رافعين راية النصر”، و”إنا فدائيون”. ولم تكن هذه الأغاني مجرد أناشيد حماسية، بل كانت تجسيدًا لمشاعر وطن بأكمله يسعى لاستعادة كرامته.
كان دعم أم كلثوم للمجهود الحربي جزءًا من التزامها العميق بقضايا الوطن. حتى أن أعلى أجر حصل عليه فنان عربي في باريس كان من نصيبها، حيث تقاضت 14 ألف جنيه إسترليني، لكنها تبرعت به بالكامل للمجهود الحربي، بكل محبة وإخلاص.
ورغم رحيلها، ظل صوتها رمزًا للصمود والإصرار، يذكّر المصريين والعرب جميعًا بأن الفن يمكن أن يكون سلاحًا قويًا في مواجهة التحديات. واليوم، لا تزال أغانيها الوطنية تُبث في كل مناسبة قومية، لتؤكد أن “الست” لم تكن مجرد مطربة، بل كانت روحًا نابضة بحب مصر، وسندًا للأمة في أشد لحظاتها احتياجًا لصوت يرفع راية الأمل.
وفي النهاية، كان الهدف من هذا المشروع هو البحث في ما حدث لهذا الجمهور، الذي كان يومًا ما يحتشد لحضور حفلات أم كلثوم، وكيف تغيرت علاقة الناس بالفن مع مرور الزمن.