يحكي الكاتب الفرنسي ألبير كامو في كتابه “تأملات في المقصلة” كيف أن جريمة مروعة حدثت في الجزائر حين كانت مستعمرة فرنسية، حيث أقدم فلاح على قتل أسرة كاملة بكبيرها وصغيرها في رعب دموي غير مسبوق، فعل دنيء أتبعه بالسرقة. فغضب أبو الكاتب (وهما معا من الفرنسيين المقيمين هناك آنذاك) من هذه الجريمة المروعة، التي جزاؤها إعدام بطيء مع أقصى حالات الألم، معترفا أن الموت بالمقصلة لا يلائم فظاعة ما اقترفه الجاني (لأنها تقطع الرأس بسرعة دون ألم) ثم قرر أن يحضر إعدام المجرم تشفيا فيه وتلذذا بموته. وحين شاهد رأس القاتل يسقط في السلة وعنقه يلفظ موجات من تدفق الدماء مع نبضات القلب، أصيب بامتعاض شديد وصل حد القيء المتصل. نادما على حضور هذا المشهد المؤلم.
ألبير كامو في تأملاته هذه اختصر الإعدام بكون “اغتيالا يخفي وجهه”، لأن الجريمة تلصق بالقاتل وحده بينما ينجو القتلة الآخرون من المحاسبة: البيت والمجتمع والعدالة وأطراف أخرى متوارية عن الأنظار. كيف ينشأ من يرى أمه تمارس الدعارة كل يوم لتطعم الأسرة؟ سيكره النساء ويقتل كل من لقيها في ظروف ملائمة للقتل. ونماذج أخرى كثيرة من مشاركة أطراف أخرى في الجريمة، والتي تستحق الإعدام بنسبة ما.
حين نجد الفلاح يعدم مئات أو آلاف النباتات المضرة بغَلّته فإننا لا نحاسبه على ذلك، لأنه لم يتسبب في نمو هذه النباتات، ولا تسببت أسرته في ذلك ولا جيرانه ولا الشارع ولا الحكومة ولا غير ذلك، الطبيعة وحدها هي المسؤولة. عكس المجرم الضار بالمجتمع، لم ينبت وحده ولم تأت به الطبيعة وإنما المسؤول عنه جماعة من المشاركين في الإجرام.
حين نرجع إلى طريقة تعامل المغاربة مع شرع القصاص فإننا نجده انتقائيا، رغم أن أحكامه موجودة في القرآن بلفظ صريح، “وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص”
فلماذا لا يطبق سوى النفس بالنفس، مع تكييف حديث للأحكام حتى تلائم عصرنا. لماذا لا نكسر سن من كسر سنا، لماذا لا نجذع أنف من قطع أنفا، لماذا لا نقطع يد السارق ولا نرجم الزاني؟ لماذا نتعامل بالربا؟ ثم شلالا من “لماذا”، له جواب متحضر واحد: لأننا نعيش زمنا آخر مختلفا عن زمن الرسل والأنبياء، وسط مجتمع دولي مؤلف من عشرات الدول، تربطها علاقات اقتصادية وسياسية وحضارية. انظروا للدول التي تطبق الإعدام بشكل علني، كم عددها؟ قليل. والتي تطبقه في مكان مغلق عددها محصور، منها بعض ولايات أمريكا. لماذا نجد الأغلبية الساحقة محت الإعدام من قوانينها أو ألغت تطبيقه مثل ما فعل المغرب منذ 1993؟
أنصار تطبيق الإعدام يقولون بصلاحيته للردع وإنصاف المتضررين من الجريمة، لكن ثبت أن ما قبل تطبيق الإعدام وما بعد تحريمه لا يوجد تغيير كبير، أي أن إلغاء التطبيق لم يزد الجرائم عما كانت عليه في الزمن السابق، ومن ثم فهو ليس برادع كما يتخيل الناس. أما إنصاف المتضررين فإن القانون غير معمول بغريزة العواطف وإنما هو مؤسس على عدالة تصاغ بالعقل والتأمل، وإلا فإننا نرجع لزمن الثأر، حيث ينتظر المتضررون مدة قصيرة أو طويلة قبل أخذ ثأرهم بيدهم من المجرمين.
حين يوقع المغرب في الأمم المتحدة على إلغاء الإعدام فهو يخرج بذلك من تناقض كبير بين ما ينطق به القضاة في المحاكم وما ينفذ على أرض الواقع. ونحن نعرف أن الملك الحسن الثاني كان حكيما حين رفض التوقيع على أحكام الإعدام منذ إعدام الكوميسير ثابت. أما في عهد محمد السادس فإنه لم ينفذ أبدا، جريا على سنة الملك الراحل.
حكم الإعدام حاضر عند المغاربة بقوة العاطفة، وكأن الإعدام سينظف البلاد من المجرمين، والحال أن لا شيء يغير من فعل القتل، بعمد أو بغير عمد. وحتى القتلة الذين لا دافع ولا مبرر لجرائمهم سوى لذة السادية مكانهم المستشفيات العقلية لا المشانق ولا الرصاص ولا الكهرباء ولا السم ولا غيرها. أما العقل فيقتضي أن نتجنب صنع المجرمين، وأن نتبين المصانع الحقيقية للإجرام ثم نجتثها من الجذر دون إراقة الدماء.