جلست أم أيمن، السيدة السورية المُسنة، على الأرض الباردة في قريتها الصغيرة، تنظر إلى جثث ولديها وحفيدها الملقاة أمامها. لم تبكِ، ولم تصرخ بعد الصدمة الأولى، بل حدقت في المسلحين الذين وقفوا يوثقون المشهد بكاميرات هواتفهم.
الصراع السوري
“الله لا يسامحكم”، قالت بصوتها المتهدج، متحديةً الرصاص الذي أنهى حياة أحبائها قبل لحظات. ردّ أحدهم بضحكة باردة، قبل أن يرمي إليها بجثة ابنها كما لو كانت شيئا بلا قيمة.
كانت هذه اللحظة – التي التقطتها عدسات القتلة أنفسهم – شاهدة على مأساة أخرى في الصراع السوري، حيث أصبحت الهوية بطاقة موت، وأصبحت الأمهات شهودا على المذابح التي لا تنتهي.
مفطع الفيديو الذي أظهر الحادثة انتشر في أنحاء العالمة وذكرت شبكة “بي بي سي” أن أبناء أم أيمن التي تُدعى “زرقة سباهية” قتلوا في قرية قبو العوامية على يد الفصائل المُسلحة الخارجة عن السيطرة والتي تمارس عمليات القتل على أساس الهوية ضد أبناء الطائفة العلوية.
وأعدمت الفصائل المسلحة اثنان من أبناء “أم أيمن”، وحفيدها، لكنها تماسكت وذهبت إلى الجثث وتحدت المسلحين الذين كانوا يصورون ضحاياهم.
الأم تتحدى القتلة
خلال تصوير أحد المسلحين الذين قتلوا أبناء وحفيد أم أيمن، اقتحمت السيدة السورية العجوز موقع التصوير، ليقوم أحدهم بتبرير الجريمة التي تسببت في خسائر فادحة للسيدة.
ووثق المرصد السوري لحقوق الإنسان الحوار الذي دار بين السيدة وقتلة أبنائها، إذ قالت لهم بشجاعة وفي تحد :”الله لا يسامحكم”، لتتلقى رد فعل عنيف من أحد المسلحين الذي تلفظ بعبارات طائفية.
وفي وجه الأم البالغة 86 عاما، قال مُسلح على بعد مسافة قريبة من جثث أبناء وحفيد السيدة السورية: “والله سندعس كل علوي، أنتم غدارين، تقاتلون أهل السنة، منحناكم الأمن، لكنكم غدرتم بنا”.
ولم تصمت السيدة السورية التي تحولت إلى أيقونة عبر العالم تعبر عن القتل التمييزي على أساس الهوية في الساحل السوري، وقالت له بلهجتها وصوتها المتهدج :”فشرت”، لتتلقى ردا ساخر من أحد القتلة قائلا: “إنت فشرتي.. استلمي أولادك يلا”.
وترك المسلحون السيدة السورية مع جثث ذويها في حسرة بالغة، بعدما صوروا المقطع وعرضوه بأنفسهم، دون إدراك منهم أنه سيتحول إلى دليل إدانة ضدهم، بعدما واجهتهم عجوز مكلومة بشجاعة بالغة.
كيف قُتل أبناء زرقة؟
تحدثت ابنة زرقة للمرصد السوري عن تفاصيل جريمة قتل ولديها كنان وسهيل، وحفيدها محمد، إذ قالت إن الجريمة وقعت في 7 مارس الجاري، بعدما اقتحمت مجموعات أمنية منزلهم.
وقالت ابنة السيدة المكلومة أن المجموعات التي اقتحمت منزلهم بعضهم عناصر مكشوفة الوجه وأخرى ملثمة، يرتدون زيا عسكريا، ويتنقلون بين منزل وآخر في قرية قبو العوامية بريف اللاذقية “القرداحة”.
وتروي ابنة زرقة قائلة: “قام المسلحون بتفجير أقفال المنزل بالقنابل، ونهبوا محتوياته، وأجبروا الشباب الثلاثة على الخروج، وسألوهم على أنتم علوية أم سنية؟، ثم قالوا لهم : “لا تهم الإجابة، ستقتلون على أي حال”، ثم أطلقوا النار عليهم.
وقبل قتلهم قال الشباب الثلاثة أنهم “مدنيون”، إذ يدرس اثنان منهم اللغة الإنجليزية في الجامعة، لكن لم يستمع لهم المسلحون، وقاموا بتصفيتهم على الفور أمام عائلتهم.
عقاب بعد القتل
ورفض القتلة طلبات الأم في البداية بأخذ الشباب الثلاثة لدفنهم، وبقيت الجثث ملقاة في الشارع خلف المنزل لمدة 4 أيام، تحت حراسة الأم زرقة نفسها التي رفضت مغادرة المكان.
وتعرضت الأم للتهديد والتنكيل، لكنها رفضت الذهاب بعيدا عن الجثث خوفا من التمثيل بهم أو حرقهم من قبل الفصائل المسلحة التي تتنقل بين منزل وآخر لحصد الأرواح.
وتقول ابنة السيدة زرقة، إن الأم كانت تتناوب على حراسة الجثث ليلا ونهارا دون كلل أو ملل، على أمل أن تدفنهم وتكرمهم “كشهداء للغدر”، وترفض أن تأخذهم العناصر المسلحة لإخفائهم بعيدا.
القتلة يتجولون بحرية
ما يؤلم السيدة زرقة “أم أيمن” وابنتها، وسكان القرية، أن القتلة الذين أطلقوا النار على الشباب الثلاثة، ما زالوا يتجولون بحرية أمامهم كل يوم، بينما جثث الأبناء والحفيد ملقاة في الشارع.
وكشفت الابنة أن الجناة اتخذوا من المنزل المقابل لهم موقعا للسكن في الوقت الحال، مضيفة :”ترى أمي وجوه قتلة ولديها وحفيدها كل يوم”.
ولم ترحل العناصر المسلحة عن القرية، إذ يمكثون في منازل منهوبة هناك، ويتنقلون بين منزل وآخر لحصد الأرواح وسفك الدماء، ثم يعودون للمبيت بين الأهالي.
وطالبت ابن زرقة الجهات المختصة بالتوجه فورا إلى موقع الجريمة لاعتقال العناصر المسلحة ومحاسبتهم في محاكمة علنية “أمام العالم”، مطالبة بالقصاص العادل، مؤكدة أنهم “سلبوا حياتها مرتين”.
وكان الرئيس السوري أحمد الشرع قد أعلن تشكيل لجنة لحصر التجاوزات ضد المدنيين، ومحاسبة المسؤولين عنها، لكن العناصر المسلحة لم تستجب لمثل هذه النداءات واستمرت في عمليات القتل والنهب.
وأشار المرصد السوري إلى تورط عناصر مسلحة من وزارتي الدفاع والداخلية في المجازر الجماعية بحق المدنيين من أبناء الطائفة العلوية في الساحل السوري، بالإضافة إلى الفصائل الموالية لهم.
وبدت أسرة السيدة “أم أيمن” فاقدة للأمل في أن تقوم الحكومة السورية بالقصاص للشباب الثلاثة الذين قتلوا بدم بارد أمام مرآها ومسمعها، لتطالب الابنة المجتمع الدولي وكل الجهات المعنية بحقوق الإنسان بتوفير الحماية.